«جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
نجح الكونجرس الأمريكي في إفشال فيتو للرئيس الأمريكي أوباما ضد إقرار مشروع قانون JASTA “Justice Against Sponsors Of Terrorism Act”، الذي يعني باللغة العربية "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب"، الذي يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بملاحقة مجرمين أو دول عن جرائم تم ارتكابها في حق مواطنين أمريكيين أو في حق الولايات المتحدة الأمريكية. القانون كما هو واضح موجه أساسا ضد المملكة العربية السعودية، وهو في الأساس يهدف إلى الحصول على تعويضات مناسبة لضحايا الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي قدرها الخبراء بنحو 3 تريليونات دولار أمريكي.
ولكن هل فعلا القانون يعطي أمريكا الحق في ذلك؟ إذا كان القانون يعطي أمريكا الحق في ذلك فإن القانون أيضا من مبدأ المعاملة بالمثل يعطي الدول الأخرى الحق في إقرار قوانين مماثلة ومن ثم تمكنها من أن تقاضي الولايات المتحدة الأمريكية عن جرائم ارتكبها أمريكيون أو أمريكا في حق هذه الدول. وبالتالي يستطيع أي شخص أو أي دولة محاكمة الولايات المتحدة الأمريكية أمام المحاكم المحلية أو الدولية. يقال إن القانون أجري عليه تعديل أفرغه من محتواه، ولكني هنا أناقش أبعاد القانون بصورته الأصلية التي وافق عليها الكونجرس.
إذا ما نظرنا إلى سجل جرائم الولايات المتحدة الأمريكية سواء في دول الشرق الأوسط أو دول أمريكا اللاتينية أو غيرها من دول العالم سوف نجد أن الخاسر الأكبر من إقرار قانون جاستا هو الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. حيث ستواجه بكم لا نهائي من قضايا تطالب بتعويضات عن الجرائم التي ارتكبتها أمريكا على سبيل المثال في ليبيا أو في أفغانستان أو في العراق أو في غيرها من الدول.
فمن المتعارف عليه أن الولايات المتحدة الأمريكية بتدخلاتها القذرة من خلال الـ CIA أو المخابرات المركزية الأمريكية أو التدخل العسكري المباشر من خلال الجيش الأمريكي أو القوات الخاصة قد قامت بكثير من العمليات القذرة عبر أماكن كثيرة في العالم وهي مسجلة بالفعل ومنها قلب نظم للحكم واغتيال رؤساء وتغيير حكومات وغير ذلك من أعمال خاصة.
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية بقانون جاستا تطمح إلى أن تحصل على تعويضات من المملكة العربية السعودية باعتبار أن العدد الأكبر ممن قاموا بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر هم سعوديون باعتبار أن 15 من الـ 19 شخصا الذين ارتكبوا جريمة الحادي عشر من سبتمبر ينتمون إلى الجنسية السعودية يعطي الحق للولايات المتحدة الأمريكية في طلب تعويضات من المملكة العربية السعودية وهو مبدأ غريب جدا أن تحاسب دولة بسلوك حفنة أفراد، الذين قد لا تتوافق أفكارهم ومعتقداتهم وسلوكهم مع السياسة الرسمية للدولة.
فبهذا المنطق يفترض القانون أن الحكومة السعودية قد كلفت هؤلاء الأشخاص بصفة رسمية للقيام بمثل هذا العمل الإرهابي نيابة عنها. مع أنه من المعلوم للولايات المتحدة الأمريكية بالأساس أن المملكة من أوائل الدول التي تحارب الإرهاب سواء داخل المملكة أو خارجها وقد عانت كثيرا من آثار مثل هذه العمليات الإرهابية، فكيف لها أن تدفع تعويضات عن عمليات هي أساسا أكثر من تعرض لها؟ وهو منطق عجيب وغريب.
فهل لوجود مصري واحد بين القائمين على هجوم الحادي عشر من سبتمبر يعطي الحق للولايات المتحدة الأمريكية أن تقاضي مصر وتطالبها بدفع تعويضات عن أفعال شخص هو أساسا مطرود منها ولا يتبع لنظامها السياسي الرسمي ولا يمثلها بأي شكل من الأشكال. كيف لها أن تطالب دولة بأن تدفع ثمن أفعال شخص مارق عن هذه الدولة وعن سياساتها؟ إنه أمر عجيب وغريب.
إذا كان الأمر كذلك فلتستعد الولايات المتحدة الأمريكية لأن تدفع الثمن نفسه ولكن هذه المرة بعمليات رسمية قام بها الجيش الأمريكي وقامت بها المخابرات المركزية الأمريكية يعني جهات رسمية تمثل الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي فمن الأولى أن تتحمل نتائج مثل هذه العمليات وتكاليفها وتدفع خسائر الدول الأخرى التي نجمت عن مثل هذه العمليات. على العموم لا تفرح أمريكا بإقرار قانون جاستا ولتستعد لملايين القضايا التي سترفع ضدها من جميع أنحاء العالم.
وعلى أمريكا أن تعلم أن تبعات مثل هذا القانون ضخمة جدا سواء في الأجل الطويل أو الأجل القصير فلن تأمن أي دولة من دول العالم بأن تستثمر أو تودع أموالها لدى الولايات المتحدة الأمريكية لتتعرض مثل هذه الأموال للمصادرة أو التجميد بحجة تطبيق قانون جاستا ولعل في التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية السعودي منذ فترة بتسييل مئات المليارات من الدولارات من الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية أول تبعات تطبيق وإقرار مثل هذا القانون. فلن يثق العالم بأمريكا بعد ولن يثق العالم بأن السوق الأمريكي أصبحت الملاذ الآمن لاستثماراته لأن هذه الاستثمارات سواء كانت تعود لأشخاص أو تعود لدول لم تعد بعد هذا القانون آمنة وأصبحت عرضة لخطر المصادرة أو التجميد في أي وقت بحجة تطبيق قانون جاستا.
ومن المعلوم أن أمريكا دولة تعيش خارج نطاق إمكاناتها اعتمادا على ما تجتذبه من مدخرات من دول العالم الأخرى وهذه الحقيقة تمكن أمريكا من أن تحقق عجزا كبيرا في ميزانيتها وفي ميزان مدفوعاتها وهي مطمئنة تماما إلى أنها سوف تجد طابورا طويلا من مئات المليارات من الدولارات الراغبة في الاستثمار في السندات الأمريكية أو إقراض الحكومة الأمريكية لما تتمتع به من تصنيف ائتماني سيادي متميز. ولكن بقانون جاستا لم تعد السندات الأمريكية هي أكثر الأدوات الاستثمارية أمانا في العالم، ولم يعد الدين الأمريكي هو أكثر الديون أمانا في العالم، ولم تعد سوق المال الأمريكية الأكثر جاذبية للمدخرات سواء الخاصة أو العامة، وقد تواجه أمريكا في المستقبل نقصا في الأموال المتاحة للاستثمار أو إقراض الحكومة الأمريكية كإحدى التبعات المباشرة لمثل هذا القانون، وعلى أمريكا أن تستعد لدفع ثمن إقرار مثل هذا القانون الغريب.