جدتي .. والاستراتيجية
ليس لجدتي علاقة بالاستراتيجية (ولا جداتكم.. أيضا) فضلا عن أن تكون قد سمعت بها أصلا، بل أجزم أنه سيتعذر عليها مجرد نطقها فيما لو طلب أحد منها ذلك.. فما بالك بأن تعرف ما تعنيه وما أهميتها!
جدتي أيضا لا علاقة لها وجداتكم كذلك، بكلمات أخرى مثل: الاستدامة، والمنظومة، والشفافية، والحوكمة أو عبارات من نوع: (المسؤولية الاجتماعية واقتصاد المعرفة)، وما شابه هذه وتلك من المصطلحات الاقتصادية والقانونية والإدارية والمالية التي غمرت فضاءنا الإعلامي في السنوات الأخيرة وشاع إقحامها قولا وكتابة بشكل مفرط وفي سياقات لا مكان لها فيها من الإعراب وبما يشير إلى أن القائم بإقحامها يكاد ينطبق عليه بالفعل مثلنا الشعبي (ما عنده.. ما عند جدتي)!
سابقا.. كانت كلمة (الاستراتيجية) لا ترد في الغالب، إلا عند الحديث عن الخطط التنموية لكن ظهورها أخذ يتواتر مع موجة كتابات وأحاديث ما يسمى بعلم النجاح وتقدير الذات والبرمجة العصبية أو ما بات يعرف بالاتجاهات الجديدة في التنمية البشرية، ثم ما لبثت أن تكاثف حضورها الإعلامي، وبالذات مع أحداث الربيع العربي.. فصارت لفظة الاستراتيجية تتبختر سابقة أو لاحقة لكل ما هب ودب.. فإذا أي فرد هو خبير أو محلل استراتيجي وأي عمل هو عمل استراتيجي وأي مكان هو كذلك موقع استراتيجي.. وهكذا صار الجميع مجللا بالاستراتيجية.. بلا مبرر ودون أدنى حرج!
هذه الخفة في التسطيح والهرولة للتتويج بلفظة الاستراتيجية حيثما وكيفما اتفق كرست في الأذهان ابتذالها والاستهانة بدلالاتها وبالتالي تعذر التفريق بين المهم والأهم.. وبين ما ليس مهما، على الإطلاق!
فكم يحدث أن يتم تقديم فرد للمتلقي على أنه خبير أو محلل استراتيجي بينما لا تخفى محدودية اطلاع هذا الفرد ناهيك عن بعده عن التخصص أو ممارسة الدراسة والبحث.. وقل مثل ذلك في إسباغ هالة الاستراتيجية على أعمال وأفعال وأمكنة هي مما لا تتسم بشيء من ذلك!
إذا.. لا غرابة ـــ حين يحدث هذا باستمرار ـــ أن يقع جمهور المتلقين في مصيدة التسرع في إصدار الأحكام على إجراءات أو إنجازات أو مواقف أو أحداث عادية ووضعها في صدارة ملكوت الاستراتيجية.. وهو نهج بات يشكل اليوم ظاهرة فاقعة اللون في وسائل التواصل الاجتماعي وعالم الكتابة!
إن هذا اللهاث لاستهلاك مفردات اصطلاحية وإقحامها بصورة نابية كالتي أشرت إليها أعلاه له أثر معيق يتعدى التأسيس لمفاهيم ملتبسة ومشوشة عن تلك المصطلحات إلى إيقاع العقل الجمعي للمجتمع في قبضة وعي زائف يدفعه للانقياد وراء الشائعة والخرافة والمضاربة عليهما طريقة تفكير.. حتى في ظروف الخطر التي تتحدد فيها مصائر الأمم والشعوب!
وما من حل لهذه المعضلة الثقافية سوى احتراس الإعلاميين والمثقفين في كيفية تداولها والترقي في مسؤولية طرحها بما لا يورطها في التباس أو بلبلة.. ومع أهمية ذلك فالرهان الأهم سيبقى على وعي المتلقي نفسه أن يستقصي بذاته ماذا يعنيه مدلول تلك المصطلحات ومرجعياتها العلمية وإحالاتها التاريخية.. وخصوصا أن الأمر لم يعد يتطلب أكثر من لمسة على محرك "جوجل" أو سواه بدل إقحامها وكأنها زركشات لفظية للفذلكة والاستعراض.. إذ من دون ذلك، سيظل التخرص سيد الموقف في عصر لا مكان فيه ولا مكانة للتخرص وإنما لوعي منهجي يصدع بالعلم والحقيقة.