قراءة في ميزانية تفاؤلية مع نجاح خطط الإصلاح الاقتصادي

أبسط ما يمكن قوله عن ميزانية العام المالي 2017 هو تهنئة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والشعب السعودي جميعا على هذه الميزانية التفاؤلية، فهذه الميزانية تأتي بعد تحديات اقتصادية هائلة جدا ولم تزل مستمرة، تحديات ليس على مستوى التراجع الحاد الذي أصاب السوق النفطية مع فوضى وارتباك كبير بين المنتجين جعل الاتفاق بينهم على مستويات إنتاج معقولة يبدو في بعض الفترات أمرا مستحيلا، ومع هذا التدهور في أسعار النفط كانت هناك حاجة ماسة إلى ترتيب البيت الاقتصادي من الداخل نظرا لمستويات الإنفاق المحلي المرتفعة التي بلغت مستويات عالية جدا مع مظاهر هدر في الإنفاق وتعثر في المشاريع بجميع شرائحها ومشاريع ذات جدوى اقتصادية منخفضة، ما هدد عجلة التنمية على الرغم من حجم النفقات، وقد صادفت هذه التحديات الاقتصادية الضخمة عواصف من الاختلالات السياسية والأمنية التي أصابت دول الجوار على حدود المملكة الجنوبية والشمالية، ومعها اضطرت المملكة إلى أن تتدخل عسكريا للدفاع عن الحدود الجنوبية لها مع اليمن. كل هذه المظاهر ألقت بظلال كبيرة من الشك على إمكانية تعافي الاقتصاد السعودي وعودته إلى مسار سليم وعودة الميزانية السعودية إلى النمو، لكن ميزانية عام 2017 جاءت ملأى بالمفاجآت السارة ليس أقلها العودة للنمو في الإيرادات وفي المصروفات معا وانخفاض مستوى العجز.
في خطاب مجلس الشورى في دورته السابعة لهذا العام 1438هـ، تحدث الملك مع شعبه بصراحته المعهودة وأن الحاجة إلى إصلاحات اقتصادية كانت أمرا ملحا، ولو أن هذه الإصلاحات مؤلمة كما قال الملك، لكن اليوم ووزارة المالية تعلن بأن الإيرادات الفعلية للميزانية عن عام 2016 الجاري كانت أفضل وأكثر مما تم تقديره في بداية العام، وأن المصروفات انخفضت فإننا نشعر بالكثير من الارتياح لهذه التوجهات الإصلاحية الصارمة والجديدة، بينما قدرت الإيرادات عن مستوى 514 مليار ريال إلا أن الفعلية تجاوزت هذا المبلغ، حيث بلغت 528 مليارا وإذا كان هذا إنجازا في حد ذاته لكن الأمر يبدو مثاليا جدا، بل تميز بمعرفة أن المصروفات ولأول مرة تكون أقل مما يخصص لها في بداية العام، وهذا يدل على أن إجراءات الترشيد التي انتهجتها المملكة قد حققت النتائج المأمولة منها تماما، وسيكون هذا مرتكزا أساسيا للعمل في السنة المقبلة 2017. لقد تعودنا خلال السنوات السابقة أن أي زيادة في الإيرادات تقابلها زيادة في المصروفات، بل لقد تعودنا على تضخم في المصروفات مستمر بنسب لا تقل عن 10 في المائة. لقد كان بيان وزارة المالية واضحا بهذا الشأن، حيث أكدت أن السبب الرئيس في هذا الانخفاض هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة خلال العام بهدف ضبط الإنفاق ومراجعة المشاريع القائمة والجديدة مع الحرص على الاستمرار في صرف المستحقات المالية للمقاولين والموردين والأفراد. في اعتقادي الشخصي أن فلسفة اقتصادية جديدة تضخ في مشاريع الدولة، وأن هذه الفلسفة تدار اليوم بيد صارمة هدفها تحقيق تنمية حقيقية قبل العودة إلى النمو في الميزانية، إذاً دون هذا الضبط الصارم فإننا سنستمر في دائرة من الهدر والنمو في الهدر، لكن أهم نتائج هذا الضبط الإجرائي في الصرف برغم التشريع به في بداية العام هو تراجع العجز عما كان مقدرا له، لعلي هنا أشير إلى معنى الضبط الإجرائي الذي اتخذته الحكومة، والذي أشار إليه بيان وزارة المالية، فالمعروف أن صدور الميزانية هو تشريع بالصرف، بمعنى أن الصرف يصبح نظاميا ويمكن للجهات البدء في الصرف من أول يوم، وهذا هو الذي جعل من الصعب إيقاف الهدر في السنوات الماضية، فهذا الشعور بالقوة النظامية للصرف جعل الجهات الحكومية تهمل ضبطها ووزارة المالية لم تكن ترفض الصرف إذا اكتملت مسوغاته النظامية ولو كانت الجدوى من الصرف غير كافية بالنسبة للاقتصاد ككل والتنمية بشكل عام، لكن الضبط الإجرائي أضاف بعدا مهما، حيث منح الحكومة الخروج من مأزق إلزامية الصرف نظاما فكان يمكن إيقاف وتعديل الصرف إذا لزم الأمر من خلال إعادة ضبط الإجراءات اللازمة له. هذا تطور مهم جدا على آلية إدارة المالية العامة للدول لم نكن نشهده من قبل، وبرغم صعوبة تحليل مصدر هذا التطور بشكل دقيق لكن بروز شخصية ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على المشهد الاقتصادي ودوره الأساس في قيادة الاقتصاد من خلال مجلس الشؤون الاقتصادية هو بلا شك مصدر التحول الأساس الذي شهدته وتشهده المالية العامة للدولة.
التحولات الاقتصادية التي تشهدها المملكة ولخصتها في “رؤية 2030”، ظهرت جليا في موازنة عام 2017، فالزيادة في الإيرادات المتوقعة ستأتي بشكل أساسي من الزيادة في الإيرادات غير النفطية، وهو ما تسعى إليه المملكة من تنويع مصادر الدخل، بينما كانت الإيرادات غير النفطية عام 2016 تقترب من 200 مليار، فإنها في عام 2017 ستتجاوزها - بإذن الله - إلى 212 مليارا وهي زيادة نوعية بلا شك، أشارت وزارة المالية في بيانها إلى رفع أسعار الطاقة وهو تصحيح في توجيه الدعم أكثر منه تصحيحا للإيرادات، ستعود الإيرادات النفطية للنمو بسبب توقعات جيدة عن استقرار السوق النفطية وانحسار التشاؤم في الاقتصاد العالمي، وهذا بمجموعه يعود بآثار طيبة جدا على الاقتصاد السعودي خلال عام 2017 وهذه الإيرادات ستقدم دعما أساسيا وفي وقته للمضي قدما في الإصلاحات الاقتصادية وجرعة مناسبة لـ “رؤية المملكة 2030” وبرنامج “التحول الوطني 2020”. وهذا كان جليا في بيان وزارة المالية من حيث إنها الزيادة في مصروفات عام 2017 ستكون دعما لبرنامج التحول الوطني 2020 التي خصص لها 42 مليارا. هذه قراءة عامة في ميزانية عام 2017 وسوف تلي هذا المقال قراءات أكثر عمقا، لكن مما يسجل لوزارة المالية لهذا العام 2016 التحول الكبير في طريقة عرض البيان المالي للميزانية، فهو يأتي فعلا بنموذج أكثر شفافية وبطريقة سهلة للتحليل وأيضا معلومات أكثر شفافية من قبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي