«الشعبوية» .. ظاهرة التنكر لأسس التقدم

برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة الشعبوية في الغرب وأحدث فوز رجل الأعمال الملياردير العجوز دونالد ترمب في السباق الرئاسي للولايات المتحدة دويا عالميا فاتحا بفوزه شهية آخرين في أوروبا لحصاد مماثل.
من المهم في البداية الإشارة إلى أن "الشعبوية" ليست ابنة اليوم، فقد وجدت على مسار التاريخ منذ القدم، إلا أنها اكتسبت آليات وعناصر جديدة من خلال الصراعات السياسية والحروب وتطور المعارف والعلوم والتجارب والخبرات البشرية، فضلا عن أنها صاحبت أنواع الحكم، حيث لجأ إليها الحاكم الفرد المدني أو الديني أو العسكري وكذلك الحكم الإمبراطوري، والملكي، والجمهوري، كما لجأ إليها اليمين واليسار.
يمكن تعريف الشعبوية؛ بأنها نزعة قومية فجة ووطنية خشنة وقطرية متزمتة.. وأنها تتميز بعدة سمات، أهمها: الاعتماد على خطاب غرائزي يعزف على عواطف الجماهير ويتلاعب بمشاعرهم ويتملق انحيازهم وأنانياتهم المحلية الضيقة، ويستغل مخاوفهم بإيهامهم بالوقوف ضد ما يشعرهم بالتهديد، إلى جانب إغداق الوعود البراقة وإغرائهم بالحظوظ السعيدة والأمن والاستقرار.
على نحو آخر، تتحاشى "الشعبوية" الموضوعية والدقة والصراحة وتتملص من العقلانية بالمغالطة على الحقيقة والمناورة فوق أرض هواجس العامة في إحساسها بالحرمان من امتيازات تستأثر بها أقلية.. أو يزاحمها عليها الأغراب.
آراء عديدة قيلت حول أسباب بروز ظاهرة الشعبوية في الغرب.. فقد قيل إنها نتيجة التداعيات السلبية للرأسمالية المتوحشة والإفراط في حرية السوق منذ ريجان وتاتشر، وقيل: انعكاسات الأزمة المالية العالمية عام 2008.. وهناك من أحالها إلى إهمال النخبة السياسية في الغرب للجماهير واستئثار الإدارات العليا بالامتيازات والنكوص عن معظم الوعود الانتخابية. ما أشعر جموع المواطنين بالمهانة والخذلان!
كما قيل إنها ردة فعل على غلاظة الإسلام السياسي ودمويته وكوارث الإرهاب فيما أحالها آخرون إلى موجات اللاجئين. لبلدان أوروبا حيث رأى فيها البعض تهديدا للهوايات الوطنية وفرص العمل والأمن.
تلك أسباب أتفق معها.. إلا أنني، أرى أن الظاهرة قد استجمعت جسارتها على رفع الصوت دون إحساس بالخجل والعار بسبب تمادي حكومات الغرب في التنكر لأسس التقدم على المستويين: الاجتماعي الخاص والإنساني العام، من خلال الاستمراء في التغافل عن استحقاقات "حقوق الإنسان" و"الحقوق المدنية".
ففي مسألة حقوق الإنسان مارس الغرب تمييزا حضاريا لمصلحته عبر الكيل بمكيالين محتكرا امتيازات الحضارة والتقدم لنفسه وأنه وحده يستحقها باعتبارها منجزه، وبالتالي لم ير حقوق الإنسان سوى أنها "غربية" ولم ير الإنسان سوى أنه "الغربي" فحسب. وقد أحدث هذا "التميز الحضاري" الغربي الشبيه "في تعاليه" بالفصل العنصري الغابر في جنوب إفريقيا آثارا سيكولوجية سيئة شوهت لا شعور شعوب الغرب أنفسهم ولوثت عقلهم الجمعي فأدى ذلك إلى انخفاض منسوب الحس الإنساني عندهم للقيم الحضارية، وبالتالي خفوت الحماس لحقوقهم المدنية وعدم المساءلة للساسة لحالات المساس بها، ما كرس مسار إفلات مقترفي المخالفات ضد حقوق الإنسان ومعها بالتبعية حقوقهم المدنية من العقاب وتفاقم الوضع في مظاهر تميز ضد الأجانب والأديان والثقافات والمرأة وفي أعمال عنف ضد السود تورطت فيها الشرطة دون أن تكون لمبادئ الحقوق المدنية والإنسانية كلمة أو ذراع قضائية، إلى أن بلغ اليوم حد التصفيق لرجل أرعن جاهز بذلك وجعل منها شعارا انتخابيا قفز بها إلى كرسي رئاسة دولة عظمي قام دستورها في الأساس على أروع خلاصات مفكري حقوق الإنسان: أمثال: منتسكيو، جان جاك روسو، وجون لوك وجون ستيوارت، وطلع فجره مع إعلان فيرجينيا ثم تأنسن مع تحريم الاسترقاق إلى أن تتوج بالمساواة بإلغاء التمييز مع حركة مارتن لوثر كينج.
كذلك عززت ميوعة المعايير القيادية لمن يترشح لرئاسة الحكومة أو الدولة من التنكر لأسس التقدم، فقد أدت هذه الميوعة إلى أن تصبح حقوق الإنسان والحقوق المدنية دون حصانة معنوية طالما بإمكان من لا قوام في شخصه ولا رصانة أن يهرول للترشح لسدة القيادة.
ولعل هذا ما يفسر اضمحلال الكاريزما في الإدارة السياسية العليا في الغرب.. فلو عدنا ـــ مثلا ـــ إلى رؤساء أمريكا فسنجد من الأدباء المؤسسين بينجامين فرانكلين، حيث كان عالما فيزيائيا، ومفكرا، وحقوقيا، وسياسيا بارعا، كما كان جيفرسون، مثقفا هائلا ومن أبرز عباقرة الفكر الحقوقي والسياسي، وفيما بعد أبراهام لينكولن بطل حرب الوحدة ومحرر العبيد، أو الرئيس ويلسون بمبادئه الشهيرة ثم جون كنيدي إلى بيل كلينتون، فجميع أولئك مع آخرين غيرهم كانوا ينهضون على ترسانة من الفكر والثقافة والحس القيادي الإنساني.
فأين هي تلك المقومات الكاريزمية في شخصيات من فئة معلق رياضي وممثل ثانوي مثل ريجان، أو ابن أسرة ثرية أبله متزمت مثل جورج بوش الابن، أو شخصية مهزوزة الإرادة مشوشة الرؤية.. مثل باراك أوباما؟!
هكذا نرى أن تنكر الغرب لأسس التقدم للحقوق الإنسانية والمدنية وترك القيادة غير محصنة بمعايير معنوية أسهم في تكييف المياه الآسنة للشعبوية وجعل القيادة السياسية في الغرب مهددة اليوم بمن يشكلون خطرا غاشما على الحرية والكرامة الإنسانية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي