النخبة والدهماء .. إشكالية الخطاب

يقال الكثير كتابة وحديثا بين حين وآخر عن قضايا كبرى فكرية أو اجتماعية، فتنظر إليها النخب من واقع تخصصاتها وثقافتها وتجارب الدول الأخرى، وينظر إليها العامة في الأغلب من خلال حصاد تجربة بلادنا وأعرافنا وتقاليدنا. وبالتالي فإن رأي النخبة كثيرا ما يختلف عن رأي العامة.
تاريخيا .. حذر كثير من المفكرين والفلاسفة والعلماء من توجيه الخطاب للعامة حول القضايا الكبرى بالمنحى ذاته الذي يتم به التوجه للخاصة "النخبة"، معتبرين أن العامة يشكلون خطرا على القضية وعلى مصدرها شخصا أم جهة أيضا، لكون العامة بعيدي الفهم والوعي في قضايا الفكر والمجتمع الحساسة وتعقيداتها .. وكان المفكرون ينعتون العامة بألفاظ مثل: الرعاع، الغوغاء، السوقة، الدهماء، السواد ... إلخ، وأن هؤلاء العامة ينظرون إلى ما لم يعتادوا على سماعه بريبة عالية أو أنه يهدد حياتهم على المستويين الشعوري والمعيشي، الأمر الذي يجعل موقفهم في الأغلب مضادا وعدائيا، بل عنيفا أحيانا.
من البدهي القول إن السجال أو الجدل يتحرى الفهم والبحث عن الحلول، وإذا كان أرسطو قد قال "من النقاش ينبثق النور" فإن لارشفوكو قد قال "ليس هناك خطأ على الإطلاق، فحتى الساعة الخربة تصدق في اليوم مرتين" وهذا يعني أن "النور" و"الحقيقة" هما الغاية من أي سجال .. وطبعا فقد كان سجال النخبة هو المقصود في الأساس .. فهل يمكن أن يقال الشيء نفسه عن سجال العامة؟!
قبل أن أجيب يتعيّن أن أشير إلى أن "النخبة" كان قد تم نعيها عبر مقولة "موت النخبة" على يد تيار ما بعد الحداثة في الغرب وتبناها كذلك مثقفون عرب .. وهم يعنون أن الامتياز المعرفي الذي كانت تتمتع به النخبة لم يعد اليوم حكرا على فئة محدودة مع انتشار التعليم والتقدم.
وهذا قول صحيح جدا .. لكن التعبير عن هذا التغير أو التطور في تلك المقولة هو الخاطئ .. فالنخبة في الواقع لم تمت .. وإنما ازدهرت وكان الأصح أن يقال "ازدهار النخبة" بعدما صارت الأمية الأبجدية والثقافية معدومة في الغرب كما تقهقرت نسبتها كثيرا في بلدان العالم.
هذا التوضيح، يصب في مصلحة "العامة" التي كانت محل ازدراء وكان ينظر إليها على أنها (الرعاع أو الدهماء ...) إذ لم تعد عامة اليوم في المستوى المزري الذي وضعها فيه السابقون وتحفظوا إزاءها بسببه.
وبناء على هذا التغير في نوعية "عامة اليوم" نعود للسؤال السابق: عما إذا كان نقد العامة يلعب لمصلحة القضايا الكبرى .. ويقدم لها قيمة مضافة؟ وبمعنى آخر هل أن عامة اليوم، صاروا إلى "النخبة" أميل وأنهم مما لا بد منه؟!
هذا السؤال سيظل دون جواب .. لأن الأمر يتطلب معرفة مستوى الوعي العام في بلادنا اليوم وما إذا كان مجتمعنا يتمتع بتكوين ثقافي يؤهله للانخراط في سجال فكري حول القضايا التي تستهدف تحولا نوعيا في هذا الاتجاه أو ذاك، وما إذا كانت لديه الأدوات المعرفية أم لا؟ غير أن جامعاتنا ومراكز البحوث عندنا لم تبادر إلى الاشتغال على مقاربات بحثية تتعلق بشخصيتنا الاجتماعية والثقافية .. وبالتالي فليس بالإمكان الحكم على ما إذا كان نقد "عامة اليوم" سيشكل قيمة مضافة أم أنه ما زال يقع في نطاق ما حذر منه مفكرو الأمس، أو أنه لن يعدو مجرد رأي انطباعي .. لا يعتد به ولا يعتمد عليه؟!
يسعى النقد في الأساس إلى تفكيك بنية القضية مدار البحث للتحقق مما إذا كانت متماسكة معرفيا وعلميا ومنطقيا وأنها تمتلك قابلية الاستجابة للواقع وقادرة على الوفاء بمتطلباته، الراهنة أو المقبلة .. وطبعا هذا لا يعني الوقوع في أسر العبارة التقليدية "النقد البناء" .. لأن مهمة النقد أن يعمد إلى الحفر لمعرفة مآلات القضية سواء كان إجراء أو إنجازا وذلك من خلال تفكيك شبكة علاقات بنية القضية وسبر كل مكون لمعرفة مدى فاعليته في تحقيق ما هو مطلوب.
لعل كثرة استهلاكنا عبارة "النقد البناء" ناجمة عن الاحتراس من الكيد والغرض والكراهية وتوظيفها في تشويه أو إنكار أو جحود ما هو محل الاهتمام .. والواقع أن نقدا كهذا لا يدخل في تصنيف النقد، وأن هذا الاحتراس، لا يمكن تخطيه، إلا بتحصين الذات بالمناعة المعنوية وبعدم الالتفات إليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي