مستقبل التجارة العالمية
انطلقت منظمة التجارة العالمية من قناعة راسخة لدى قادة العالم بضرورة العودة إلى تحرير التجارة بين الشعوب والأمم وإلغاء أو تخفيف القيود التي وضعتها الحكومات التي تحد من حركة الأموال والبضائع والخدمات، وتم الاتفاق على أن مهمة منظمة التجارة العالمية الأساسية هي ضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية، بل إن هذه المنظمة الوليدة عام 1995 هي المنظمة العالمية الوحيدة المختصة بالقوانين الدولية المعنية بالتجارة ما بين الدول، وفي خضم اندفاع الدول للانضمام استطاعت هذه المنظمة أن تضم 164 دولة عضوا إضافة إلى 20 دولة مراقبة بنهاية عام 2016.
إن منظمة التجارة العالمية واحدة من أحدث المنظمات الدولية، كما أنها خليفة الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة للجات GAAT، التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد شهد العالم نموا استثنائيا في التجارة العالمية، فقد زادت صادرات البضائع بمتوسط 6 في المائة سنويا، وساعدت اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية على إنشاء نظام تجاري قوي ومزدهر ما أسهم في نمو غير مسبوق.
وبعد أن استقر بناء النظام التجاري المتعدد الأطراف، وبعد كل تلك الجهود والمفاوضات والجولات التجارية، وانتهت إلى خفض التعريفات والتخفيف من القيود الكمية، وبناء مفاهيم حول الإغراق، وفتح الأسواق للمستثمرين الأجانب وغير ذلك من الإنجازات التي تنعكس على تحرير التجارة بشكل عام؛ فإن كل ما تم بناؤه في عقود مهدد بالانهيار في شهور أو سنوات قليلة في أحسن حال؛ لأن ما تم الإعلان عنه في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز بها دونالد ترمب تؤكد أنه ليست هناك قناعة لديه بعدالة النظام التجاري المتعدد الأطراف، وبمعنى آخر فإن منظمة التجارة العالمية أصبحت عبئا على الإدارة الأمريكية الجديدة التي تسعى لتفضيل البضائع الأمريكية، والتهديد بفرض ضرائب تعوق فرص تسويق أي بضائع غير أمريكية في السوق الأمريكية.
وفي الجانب الآخر من الأطلسي نجح التصويت في بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي في ظل قناعة من الإدارة الأمريكية الجديدة بأن هذا هو القرار الصائب بل بادر الرئيس الأمريكي في أول قراراته المثيرة للجدل إلى الانسحاب من اتفاقية التجارة PTT عبر الأطلسي، بما يعطي الانطباع بأن الشراكة التجارية العالمية لم يعد مرحبا بها، وهذه القرارات أثارت القلق في الدول الصناعية، ومنها الصين واليابان وكوريا الجنوبية ودول الاتحاد الأوروبي، وهي الدول التي تعد بحق منافسا شرسا في الأسواق العالمية، وتتميز بالنمو السريع وتوافر الأيدي العاملة غير المكلفة والقدرة على اختراق الأسواق وتغيير معادلة السوق بشكل جذري، وعلى الآخرين اللحاق بالأسواق الناشئة في آسيا على الخصوص أو التخلف عن الركب وتحمل خسائر كبيرة.
ومن يتابع ما يصرح به الرؤساء في الدول الصناعية الآسيوية المنافسة يجد أن هناك حالة ترقب وحذر لما يمكن أن تؤدي إليه السياسات الاقتصادية الجديدة عبر الأطلسي، وفيما بين الشركاء التجاريين هناك، وهي بلاشك ستنعكس إيجابا أو سلبا على التجارة العالمية، وقد تكون ردود الأفعال منحصرة في المعاملة بالمثل، وهي في أدنى حدودها ستجهض فكرة تحرير التجارة بين الشعوب والأمم، حتى إن بقيت منظمة التجارة العالمية قائمة في مقرها الرئيس بجنيف الذي لن يعدو أن يكون أرشيفا يؤرخ لمرحلة جديدة تنغلق فيها الأسواق العالمية على نفسها.