شركة التابلاين .. سادت ثم ماتت

في عام 1947، بدأ تصميم ثم إنشاء خط التابلاين الذي كانت تمتلكه شركات البترول الأربع الكبرى المالكة آنذاك لشركة الزيت العربية الأمريكية، أرامكو. وكلمة التابلاين اقتطعت من أوائل حروف اسمها الكامل باللغة الإنجليزية، وهي "خط الأنابيب عبر البلاد العربية". وقد أنشئت شركة التابلاين حصريا من أجل بناء وتشغيل الخط الذي كان ينقل النفط من منابعه في المنطقة الشرقية إلى الموانئ اللبنانية على البحر الأبيض المتوسط، عبر الحدود الشمالية للمملكة، مارا بالأردن وسورية. ووصل أعلى عدد لموظفي الشركة إلى 16 ألف موظف، معظمهم من السعوديين. وأصبح اليوم من آثار الماضي. فلم يبق من محطات الضخ إلا الأطلال، وإن كان الخط نفسه لا يزال على وضعه وفي مكانه.  بدأ العمل في بناء الخط، الذي يبلغ طوله ما يقارب 1660 كيلو متر، منها 1200 داخل المملكة، في عام  1948. ويبدأ مسار الخط من تقاطع خطوط الأنابيب القادمة من بقيق مع خطوط الحقول الشمالية جوار القطيف. وانتهت أعمال إنشاء الأنبوب الرئيس ومرافق الضخ في عام 1950. وقد بدأ التشغيل الفعلي للخط مباشرة بطاقة 300 ألف برميل في اليوم، ارتفعت في وقت لاحق إلى 500 ألف برميل في اليوم. واستمر عمل شركة التابلاين حتى عام 1967، عندما توقف الضخ نتيجة للأحداث التي مرت بالمنطقة في ذلك التاريخ. وتم استخدام الخط على فترات قصيرة ومتقطعة وبطاقة متواضعة جدا لضخ كميات صغيرة من النفط إلى مصافي الأردن، توقف بعدها الخط تماما في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ومن ثم أزيلت معظم المرافق بعد أن انتهى دورها. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن شركة التابلاين كانت قد أنشأت عدة مراكز رئيسة أو محطات ضخ على طول الخط، شملت قرى النعيرية والقيصومة ورفحاء وبدنة، التي أصبحت فيما بعد عرعر، وطريف، نهاية الحدود الشمالية. إلى جانب محطات صغيرة مساندة في عدة مواقع. وقد انتعشت الحياة في تلك القرى التي تحولت إلى مدن حتى بعد توقف عمليات شركة التابلاين، نظرا لوقوعها على الخط الرئيس المتجه شمالا إلى الحدود الشمالية.
وإنشاء خط التابلاين يعتبر في حد ذاته معجزة عصرية، عبر امتداده الوديان والسهول والهضاب الصحراوية. وقد استخدم المخططون عدة أساليب إبداعية ساعدت كثيرا على إنجاز العمل في وقت قياسي وبكفاءة عالية. وكان أول تحد لهم طريقة نقله بواسطة البواخر بحجمه الكبير. فقرروا أن يكون هناك حجمان للأنبوب، 30 و32 بوصة. فوضعوا الـ 30 بوصة داخل الـ 32 بوصة ليتحول الحجم أثناء النقل إلى النصف. ونظرا لرسو بواخر النقل على مسافة بعيدة عن الشاطئ في ميناء رأس المشعاب، فقد توصلوا إلى طريقة فريدة لنقل الأنابيب من البواخر إلى مكان التجميع على اليابسة. أنشأوا أبراجا ضخمة تفصلها عن بعضها مئات الأمتار. ووصلوها من الأعلى "بكيابل" معدنية سميكة، تشبه خطوط التيار الكهربائي. وسيروا عليها مكينة في حجم "مكينة الدركتر" معلقة بين السماء والأرض، أسموها "سكاي هوك"، يقودها الرجل كما يقود المركبة على سطح الأرض. ولكنها كانت في سيرها فوق الكيابل ترتفع وتنخفض حسب قربها وبعدها عن قمة الأبراج، ولها صوت مميز يشبه حنين الربابة، نسمعها ونحن على بعد كيلو مترات. وكانت أثناء قدومها من الباخرة تحمل الأنابيب، معلقة بواسطة كيابل حديدية متحركة. وعند عبورها الشاطئ إلى اليابسة تخفض حمولتها إلى المستوى الأرضي لتفريغها، ومن ثم تعود إلى الباخرة مرة تلو الأخرى على مدار الـ 24 ساعة. يلي ذلك فصل الأنبوبين عن بعضهما ثم تلحيم كل ثلاثة أنابيب لتصبح أنبوبا واحدا. وكانت الشركة تستخدم مركبات كبيرة خاصة من نوع "الكنورث" الذي يحمل سبعة أنابيب، كل منها مكون من ثلاثة أوصال من أجل توفير الوقت والتكلفة. ومركبة الكنورث تستطيع حمل ما يزن 50 طنّا. وهي من النوع الذي تستخدمه شركة أرامكو لنقل المعدات والمؤن من الظهران إلى المناطق الصحراوية النائية، مثل الربع الخالي. وكانت شركة التابلاين تسير قوافل المركبات على مجموعات عددها سبعة كناور، يرافقها مركبة صغيرة يقودها المشرف على القافلة، وهو في الغالب أمريكي الجنسية. وكانت كل قافلة تتجه إلى حيث توجد فِرق التلحيم والإنشاء التي كانت تتحرك من الجنوب إلى الشمال حتى نهاية مسار الخط على الحدود الشمالية.
وكانت شركة التابلاين، على صغر حجمها ومحدودية مسؤولياتها، تؤدي الكثير من الخدمات الصحية والاجتماعية والتوعوية لسكان المناطق التي يمر بها الخط. إلا أن تلك الخدمات انقطعت بانتهاء مهمة الشركة، وانتقلت المسؤولية التي كانت تقوم بها الشركة إلى الدوائر الحكومية المعنية. وانتهاء عمليات ضخ النفط بواسطة خط التابلاين والاستغناء عن مرافقه وهجر المحطات التي كانت قائمة على ضفافه، تحذير يذكرنا بما سوف تؤول إليه أمورنا عندما ينضب نفطنا ونحن لا نزال على وضعا الحاضر من عدم الإنتاجية وتنويع الدخل. نخشى من وصول ذلك اليوم الذي تتحول فيه منشآتنا النفطية إلى أطلال، كما حصل مع منشآت خط التابلاين.
ولا بأس من ذكر أن كاتب هذه السطور كان من ضمن العمال الذين كانوا يعملون في مجال تحميل الأنابيب من ورش رأس المشعاب إلى ظهور الكناور المتجهة إلى مقر الخط، وذلك بواسطة "الكرينات" التي كانت مهمتها رفع الأنابيب إلى سطح الكنور. وأتذكر، وكان عمري آنذاك لا يتعدى 16 عاما، عندما عملنا على تحميل آخر أنبوب، أواخر 1950. فقد شاهدت عددا من رؤساء الشركة وهم يلتقطون الصور التذكارية معنا نحن العمال بمناسبة انتهاء العمل في رأس المشعاب. والله المستعان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي