عاجل .. «للتقبيل»

تعبر بسيارتك وسط الزحام وتكتشف أن المعرض الذي يقبع في مكانه منذ سنوات متوسطا الشارع الرئيس مظلما على غير العادة، ثم تلاحظ لوحة كتب عليها: "للتقبيل". بعد بضعة أمتار هناك لوحة أخرى معلقة على موقع أصغر كان لمحل يبيع الحلويات والقهوة والآن أصبح خاويا، كتب عليها: "للإيجار". على الرغم من أن هناك من يزدهر نشاطه وتزدحم متاجره، هناك قطاعات كاملة تعاني، مساحات خاوية ومديرون عاطلون وموظفون غارقون في الديون.
ربما لم تعد معادلة الربح قائمة بالسعة ذاتها، وربما ذهب الجميع إلى شوارع أخرى. بعد أن تنتقد في الطريق كل من يستخدم هاتفه الجوال أثناء القيادة تقف عند إشارة المرور وتخرج هاتفك وتفتح برنامجك المفضل للرسائل، لتجد خبرا يقول إنك ستفصح عن حساباتك ـــ ملزما ــــ حتى تدفع الزكاة، ثم تجد رسالة أخرى تنفي الخبر، تتبعها بأخرى تتحدث عن أسعار الكهرباء، وتفتح الإشارة لتنطلق مسرعا في طريقك.
على الرغم من أن بعض الظواهر التي نشاهدها مؤقتة، وكثير من تفسيراتنا وتصوراتنا متحيزة، ومعظم ما يصلنا من رسائل غير صحيح ، إلا أن الواقع يتغير أسرع من أي وقت نعرفه. ما يثبته التاريخ أنه في حالات التغير السريع لا يخدم الفرد إلا التكيف السريع، والتكيف السريع له ثلاثة متطلبات جوهرية: الفهم الجيد والتعلم السريع والمرونة العالية. هل وصل التسارع في التغير إلى حده الأقصى؟ لا أعتقد، ولا أتوقع أن الحياة ستتباطأ بعد اليوم. من ينظر إلى الواقع يجد أنه خليط من المؤشرات السلبية والإيجابية التي تعكس متغيرات اجتماعية واقتصادية متنوعة. نعم معادلة الربح للمحال التجارية تغيرت وهو ما أخرج كثيرين من السوق وسيخرج المزيد بعد؛ وقنوات التواصل اختلفت، لذا ذهب الناس إلى فضاءات جديدة يمارسون فيها طقوسهم الاستهلاكية بطرق لم تكن معروفة سابقا، حتى وسائل التعلم لم تعد تكفي لمواجهة تحديات اليوم مع ثورة ترفيهية عارمة لا تقاوم، لذا يتطلب الأمر إبداعا جديدا في أساليب التعلم، وإلا شاهدنا عيانا كيف ترفع الفروقات الفردية البعض وتحط من البعض الآخر.
في معظم اللقاءات الاجتماعية يدور الحديث عن المستقبل القريب وتحدياته الاقتصادية، إذ تنحصر الكرة بين هجوم الساخطين ودفاع المتفائلين. التفاؤل مبدأ ومطلب، ونقاط الساخط قد تستحق النظر بعد تجريدها من التعصب والسوداوية والتعميم. وكما هو معروف تحسن الأوضاع الكلية مرتهن بأمور لا يملك الأفراد كتابة أحداثها، لذا عليهم محاولة فهمها واستقرائها للفائدة والتعلم والتكيف والاستجابة. أما التأثير فهو يبدأ من تحسن الأوضاع الخاصة الذي يرتبط بالقدرات الفردية. تشكل القدرات الفردية الجيدة شبكة الحماية الأفضل من الإرهاصات التي قد تحصل وقد لا تحصل. المستعد جيدا لا يخاف، إن ذهبت وظيفة تأتي غيرها، وإذا ذهبت مرة ثانية يعمل في مشروعه، وإن خسر يشارك غيره. وكذلك من يهتم بديمومة تجارته، عليه حماية معادلة الربح من التقلبات الاقتصادية بفهم العملاء وتقدير احتياجاتهم ومرونة النموذج الذي يقدمه، ولّت أيام الربح السهل والتنفع من سعار وفوضى الاستهلاك.
تشير أبحاث السوق المتخصصة إلى ارتفاع وعي المستهلكين في المنطقة، هناك أيضا اهتمام غير مسبوق بالتخطيط والثقافة المالية. ومع الأخبار المؤكدة التي تخص ارتفاع التكاليف الناتج عن الضرائب والرسوم وتحسين الكفاءة وتقليل الهدر، من المتوقع رؤية قطاعات أخرى تعاني، ونماذج أعمال تنتهي، وأفراد لا يتوقفون عن الحديث القلق عن مستقبل الأيام وربما يتخذون مزيدا من القرارات الخاطئة كل يوم.
الأداء السابق ـــ لمعظمنا ــــ لم يحز فاعلية مقبولة تلائم واقعنا الحالي، وهذا فعليا ما يجب تقبله و"تقبيله" على وجه السرعة، أي التخلص منه. الأسرع في ترك الأساليب القديمة والسلوكيات غير المنتجة هو الأقرب إلى تخفيف وطأة المتغيرات الجديدة. هل سيكون هناك ضحايا؟ نعم، كثيرون يدخلون قوائم الفقر كل يوم كما يخرج منها كثيرون. تحاول الأنظمة الاقتصادية أن تصبح أكثر عدالة ولكنها وإن نجحت في ذلك فإن هناك دائما جرحى من النيران الصديقة. تجاهل لوحات "التقبيل" المعلقة والتغير الحاصل وحتى التعليق والجدل دون عمل حقيقي يحسن من القدرات الفردية والأداء الفعلي، سيزيد من قائمة المتأثرين سلبا بالتغير. المشكلة أن ضعف القدرات الفردية قد يهوي بتحصيل وتكسب الفرد حتى يصل إلى المرحلة التي لا يتمكن فيها من قضاء حاجاته الأساسية، وهذه فعلا مصيبة تستحق التنبه والحذر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي