النفط والغاز الصخريان .. سلاح أمريكي استراتيجي جديد
جاء في هذا الموضع قبل نحو ثلاث سنوات أن أمريكا اتخذت قرارا لا رجعة فيه بالاستثمار دون هوادة في النفط والغاز الصخريين مهما انخفضت أسعار النفط التقليدي.
وأغلب منابع النفط والغاز التقليديين وأكثرها إنتاجا واحتياطيا تقع في منطقة الشرق الأوسط وروسيا. ولا أظن أن هناك في الغرب من يريد أن يكون رهينة للشرق الأوسط أو روسيا. وكذلك هناك في الغرب من لا يقبل أن يصبح في نهاية المطاف رهينة لأمريكا بقدر تعلق الأمر بالطاقة.
وهذا يبدو جليا من المعارضة الشديدة للدول الأوروبية الغربية لقرار الكونجرس الأمريكي فرض قيود اقتصادية جديدة (حصار) على التعامل التجاري مع روسيا، حيث تشم منها هذه الدول رائحة موقف استراتيجي من قبل واشنطن لاستخدام النفط والغاز الأمريكيين سلاحا استراتيجيا في العلاقات الدولية.
أوروبا تعتمد كثيرا على واردات الغاز من روسيا، وهناك حاليا مشروع استراتيجي لنقل كميات كبيرة من الغاز الروسي لتلبية الطلبات المتزايدة للغاز في الدول الغربية وعلى الخصوص ألمانيا.
عندما انخفضت أسعار النفط إلى أقل من 30 دولارا في 2015 ظن كثير من المختصين أن النفط والغاز الصخريين لن يكون بمقدورهما الثبات لارتفاع تكلفة إنتاجهما.
ما فات هؤلاء الباحثين أن التكنولوجيا بصورة عامة، ومنها التكنولوجيا الخاصة باستخراج النفط والغاز الصخريين بصورة خاصة، هي في حالة تطور مستمرة.
والإبداع التكنولوجي (ماكينة أو أداة إلكترونية أو رقمية مثلا) أول ما تظهر تكون تكلفتها عالية جدا ونطاق استخدامها محدودا، وكذلك فعاليتها ومدى انتشارها ضيقا.
والتكنولوجيا (اختراع جديد أو تطوير وتحسين المنتج المتداول) تموت وتندثر إن لم تتطور. التطور يجب أن يتضمن، بين ما يتضمن، تخفيض السعر والتكلفة مع زيادة مطردة وتحسن ملحوظ في الأداء والوظائف. انظر مثلا تطور التكنولوجيا الرقمية في الهواتف الذكية، حيث كل جيل لا يزيح بل يبز السابق وظيفة وسعرا وحجما وثقلا واستخداما وغيره.
الهاتف الذكي لم يكن سلعة استراتيجية بالنسبة لأمريكا، بيد أن التكنولوجيا الخاصة باستخراج النفط والغاز الصخريين تأتي على رأس قائمة المصالح الاستراتيجية. كي تأتي هذه التكنولوجيا أُكُلها أزالت الإدارة الأمريكية أغلب العقبات في طريق استثمارها وتطويرها.
ولم يكن مفاجأة بالنسبة لي على الأقل أن أرى أن سياسات وخطط الدول النفطية الخليجية وغيرها في التقليل من شأن النفط والغاز الصخريين وضربهما من حيث الجدوى الاقتصادية من خلال خفض الأسعار لم تعد ناجعة. لا بل حدث العكس. عندما حاولت الدول المنتجة ضمن منظمة "أوبك" وخارجها خفض الإنتاج لتحسين الأسعار بعد تدهورها، كان النفط والغاز الصخريان لهما بالمرصاد حيث لم تفلح الخطة في امتصاص التخمة في الأسواق التي يعزوها بعض الباحثين إلى زيادة إنتاج الطاقة الصخرية.
وهكذا صرنا وجها لوجه أمام مصدر جديد للطاقة بإمكانه مقارعة الطاقة الأحفورية التقليدية وبإمكان الدول المنتجة لهذا المصدر وفي مقدمتها أمريكا استخدامه سلاحا استراتيجيا لتعزيز مكانتها وتثبيت سياساتها وتهميش وإزاحة مناوئها.
كل هذا لم يكن ممكنا لولا التقدم الهائل الذي حققته الولايات المتحدة في تكنولوجيا استخراج النفط والحفر الصخري الذي جعل منها الدولة رقم واحد في إنتاج الغاز مثلا ولا يخفى الآن السبب وراء هبوط أسعار الغاز عالميا.
وإن نظرنا إلى خريطة العالم لرأينا مثلا أن أكثر الدول تضررا من الهبوط الحاد في أسعار الغاز هي الدول الخليجية ومن ثم إيران وروسيا والصين.
واليوم تبرز الولايات المتحدة كدولة ذات نفوذ واسع في عالم الغاز والنفط بعد عقود من أفول نجمها. وبظهورها القوي في هذا المضمار تكون قد وضعت خطوطا حمراء في رمال الطاقة المتحركة تعزز هيمنتها على العالم.
ولم يكن هذا البعد الاستراتيجي غائبا في قرار الإدارة الأمريكية الحالية الانسحاب من اتفاقية المناخ لإزالة أي عوائق بيئية في طريق تعزيز مكانتها الاستراتيجية في عالم النفط والغاز.
وأمريكا منهمكة الآن في بناء ثلاث منصات هائلة لتحميل الغاز المسال التي ستضاعف عدد منصات التحميل فيها وأول شحنة قد طرقت أبواب بولندا، التي تقول بجلاء إنها تريد تقليل اعتمادها على الغاز الروسي واستبداله بالأمريكي.
قد تكون بولندا الباب الذي سيدخل منه الغاز الأمريكي الصخري إلى أوروبا الغربية العطشى إلى الطاقة حيث تتوقع زيادات كبيرة في استهلاك الغاز.
لا علم لي إن كانت الدول التي تنتج النفط والغاز التقليديين قد وضعت في الحسبان ظهور مارد اقتصادي وعسكري ومالي منتج للطاقة بكميات هائلة على ساحتها؛ علما أن هذا المارد مشهود له استخدام ثروته وتكنولوجيته وموارده سلاحا في خدمة استراتيجياته ومصالحه.