«رؤية 2030» .. وتعزيز الكفاءات وتفكيك المحسوبيات
في حياتي التقيت أكثر من موظف محبط لا يريد تطوير نفسه لأنه يعتقد أن المعرفة والمهارة وإتقان العمل ليست من أسباب الترقي الوظيفي وتحسين الدخل، بل العكس قد يكون حيث تحميل الموظف المجتهد العمل الشاق لساعات طويلة في حين تذهب الترقيات والمكافآت إلى من لا يعمل بسبب المحسوبيات، لأنه محسوب على المسؤول كقريب أو صديق أو لتكتل مناطقي أو قبلي أو ديني.
والمحسوبية تعني كما هو معلوم للجميع تفضيل الأقارب، أو الأصدقاء الشخصيين، أو أبناء القبيلة، أو المنطقة، أو غير ذلك على الآخرين ليس لكفاءتهم بل لأحد هذه الأسباب في تقديم الخدمة العامة، أو فرص العمل، والتعيين والترقيات والمكافآت، والمشاركة في اللجان، والسفر ضمن الوفود، والدورات التدريبية في الداخل والخارج.
وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى ضعف الأداء وهدر الطاقات والأموال والوقت والموارد كافة لتكون المخرجات هزيلة، ويأتي كل ذلك بسبب تراجع الكفاءات التي تفقد الأمل في الحصول على موقع يتلاءم مع قدراتها للصفوف الخلفية الهامشية مقابل تقدم من لا يملكون الكفاءة والقدرة إلى الصفوف الأمامية، كما يأتي بسبب عدم حرص الموظفين على رفع كفاءاتهم وقدراتهم مقابل تركيزهم على بناء العلاقات والانتماء للتكتلات القائمة على الصداقات أو الانتماءات القبلية أو المناطقية أو للحصول على الفرص والوظائف والترقيات والمميزات الوظيفية في ظل غياب العدالة وفقدان التساوي في فرص التوظيف نتيجة انتشار المحسوبيات.
المحسوبيات والميل نحو الدوائر القريبة للإنسان كالأصدقاء، والأقارب، وأبناء المنطقة أو القبيلة أو الطائفة قد تكون أمرا غريزيا كما ألمح لذلك بعض علماء الأحياء، وقد تكون أمرا عاطفيا كما أوضح ذلك علماء النفس حيث رسخت الثقافة مصطلح الفزعة للدوائر الضيقة للإنسان، ولذلك في كثير من الأحيان تجد من يحارب المحسوبيات يفعلها بمبررات وذرائع مختلفة، وإن كانت درجة وعيه عالية حيال مضارها وما يترتب عليها من مشكلات وسوء في جودة العمل والخدمات وترد في الكفاءة الإنتاجية وهدر للموارد.
إذن ما الذي يحد من المحسوبيات وآثارها السلبية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا نعيش هذا المشهد حيث قال لي أحد الأصدقاء إنه حضر اجتماعا للعصف الذهني في الجهاز الحكومي الذي يعمل به، وشاهد ما لم يشهده من قبل حيث لاحظ أن الموظفين المشاركين من كل الانتماءات الأسرية والقبلية والمناطقية بل الطائفية، ولاحظ أن ما يجمع هذا الفريق هو الكفاءة القائمة على المعرفة والمهارة والخبرة والتجربة، ولاحظ أن أعضاء الفريق كافة من المشهود لهم بالالتزام والانضباط والرغبة في العمل الجاد والإنتاجية وخدمة المجتمع، وهو أمر لم يألفه من قبل حيث عادة ما تكون الفرق واللجان العاملة تتشكل من أعضاء تجمعهم المحسوبيات مهما كانت كفاءاتهم والتزامهم حيال الموضوع أو القضية التي سيعملون على معالجتها.
ويضيف أنه أراد أن يعرف ما سبب هذا التحول؟ ولذلك تتبع أسباب تشكيل هذه المجموعة فوجد أن المسؤول الذي شكل هذه المجموعة على أساس الكفاءة يقع تحت ضغط الإنجاز المزمن والمقاس بمؤشرات الأداء، وأن فشله سيلحق الضرر به، بينما نجاحه سيرتقي به إلى أعلى، وأن مسؤوله المباشر يعيش الحالة نفسها، وكذلك الوزير يعيش الحالة ذاتها، حيث يجب عليه أن يقدم نتائج عمله والإنجازات المحققة وفقا لما قدمه من خطط وبرامج تنفيذية لمجلس الاقتصاد والتنمية وذلك في إطار «رؤية 2030» وبرامجها التنفيذية والمبادرات التي قدمها للمجلس واعتمدت وخصصت لها الموازنات ووضعت لها مؤشرات الأداء والتقييم، إضافة إلى ضغط الرأي العام من خلال الإعلام الاجتماعي.
من هذا المشهد الجميل، وهو مشهد تعيشه جميع الأجهزة الحكومية حسب علمي، أستطيع الإجابة عن السؤال، فأقول إن "رؤية 2030" وهيكلتها في تقديم الخطط والدعم والمتابعة أدت بشكل بالغ إلى تحفيز الكفاءات القائمة والواعدة، وتفكيك المحسوبيات مهما كان نوعها وقوتها، نعم تم تحفيز الكفاءات لأنها أدركت أن الكفاءة هي المعيار الأول، بل لربما الأوحد في الحصول على الوظائف والترقيات والمكافآت ولذلك أطمأنت فسارعت لتطور نفسها وتعمل بجد واجتهاد دون إحباط، خصوصا أنها أدركت أيضا أن زمن المحسوبيات ولى إلى غير رجعة، فمن لا ينتج ولا يحقق الأهداف سيلحق الضرر بنفسه وبمن حاباه على حساب الكفاءات والعمل والإنتاجية، كما أنه سيلحق الضرر بالجهاز الحكومي والدولة بالمحصلة، وهو أمر غير متاح كما هو في السابق حيث تتم مداراة الأخطاء وضعف الإنجاز لغياب الخطط والبرامج التنفيذية والمتابعة والرقابة الدورية وفق مؤشرات أداء لا تجامل أحدا.
ولا شك أن موضوع إعادة الاعتبار للكفاءات وتحفيزها سيؤدي إلى إيجاد بيئة جديدة تنطلق من القاعدة أو الأساس، حيث سيعرف الأبناء أن انتماءاتهم لغير الوطن لن تدفعهم لتحقيق طموحاتهم، وأن طموحاتهم في الوظائف والمناصب والرواتب والمكافآت لا يمكن أن تتحقق إن لم يكونوا كفاءات تتميز بالعلم، والمعرفة، والمهارة، والالتزام، والانضباط، والإتقان، والحرص على التعلم المستمر، وهذا سيدفعهم للحرص على التعلم والقراءة واستثمار الفرص التعليمية والتدريبية بالصورة المثلى، كما سيدفعهم للالتزام بقيم العمل والإنتاجية، كما سيدفع آباءهم للبحث عن أفضل المدارس والجامعات ومؤسسات التدريب ومن ثم متابعتهم للتأكد من استفادتهم بالشكل الأمثل، وهو أمر سيدفع المؤسسات التعليمية والتدريبية للاستجابة ببرامج تعليمية وتدريبية عالية الجودة تحقق الفائدة المرجوة للطلاب والمتدربين.
ختاما سيكون لـ"رؤية 2030" أثر بالغ في تحفيز الكفاءات وتفكيك المحسوبيات وسينسحب هذا الأثر على منظومة إنتاج الكفاءات البشرية من مدارس، ومعاهد، وجامعات حكومية وأهلية لتكون أكثر جودة ومسؤولية، وكذلك على حرص الوالدين على تأهيل أبنائهم ليكونوا كفاءات منافسة لكيلا يكونوا عالة أو في الصفوف الخلفية، وكل ذلك سينعكس على رفع معدلات التنمية في بلادنا بإذن الله.