شيوخ اللغة العربية في حضرة المؤسس

شيوخ اللغة العربية في حضرة المؤسس

 في يوم الجمعة 3 شعبان 1348هـ نشرت جريدة أم القرى أنه سيصل يوم الأحد 5 شعبان 1348هـ على ظهر السفينة الخديوية  "تاودي" كل من شيخ العروبة أحمد زكي باشا ونبيه بك العظمة، وخير الدين أفندي الزركلي، وعبدالوهاب أفندي خضير، وعبدالقادر أفندي المازني مندوبا عن جريدة السياسة، ومحيي الدين أفندي رضا مندوبا عن جريدة المقطم، وآخرون، للمشاركة في الاحتفال بعيد جلوس الملك عبدالعزيز. وقد وصلوا جميعا على ظهر سفينة واحدة. ثم نشرت في العدد الذي يليه خبر وصولهم في اليوم المقرر. هذه الزيارة نتج عنها مقالات ومؤلفات لبعض أعضاء الوفد المشارك في الاحتفال، وسأتحدث في هذه المقالة عن بعضها.

المازني في الحجاز
 إبراهيم بن محمد بن عبد القادر المازني، ترجم له الزركلي في الأعلام فذكر أنه ولد في القاهرة عام 1308هـ، وتوفي بها عام 1368هـ، وقال عنه، "أديب مجدد، من كبار الكتاب، امتاز بأسلوب حلو الديباجة، تمضي فيه النكتة ضاحكة من نفسها، وتقسو فيه الحملة صاخبة عاتية"، وأنه تخرج بمدرسة المعلمين، وعانى التدريس، ثم الصحافة وكان من أبرع الناس في الترجمة عن الإنجليزية، وأنه نظم الشعر، وله فيه معانٍ مبتكرة اقتبس بعضها من أدب الغرب، ثم رأى الانطلاق من قيود الأوزان والقوافي فانصرف إلى النثر، وقال عنه أيضا، "عاش عيشة الفيلسوف مرحا، زاهدا بالمظاهر، وكان من أرق الناس عشرة ومن أسلسهم في صداقته قيادا، يبدو متواضعا متضائلا.. يمزح ولا يمس كرامة جليسه، مخافة أن تمس كرامته. ويتناول نقائص المجتمع بالنقد، فإذا أورد مثلا جعل نفسه ذلك المثل، فاستسيغ منه ما يستنكر من غيره. وهو من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة". ثم أورد عددا من مؤلفاته، وليس من بينها هذا الكتاب الذي نتحدث عنه اليوم وهو "رحلة إلى الحجاز"، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1349هـ/ 1930م في 166 صفحة، وفيها عدد من الصور، ثم صدرت الطبعة الثانية عام 1973م في 173 صفحة وبدون صور. وقد اعتمدت على الطبعة الأولى في هذه المقالة.

الطريق إلى ينبع
بدأ الفصل الأول من رحلة المازني بعنوان "في الطريق إلى ينبع على ظهر سفينة"، وصف لنا خلاله مشاهداته ورفقاء السفر، وذكر منهم شيخ العروبة أحمد زكي باشا، ونبيه بك العظمة، وخير الدين الزركلي، ويُحقّر شأنه بينهم لنبله وتواضعه فيقول، "أين يذهب الصعلوك بين الملوك". وصلت السفينة إلى ساحل ينبع فركبوا زورقا حتى يوصلهم إلى المدينة التي يصفها بأنها "صغيرة فقيرة، وبها مساجد كثيرة، أشهرها مسجد ابن عطاء، والخضر، والسنوسي، وأهلها وكلاء للتجار أو عمال لهم، وليس فيها زرع ولا ضرع، وبها آلة لتصفية ماء البحر للشرب"، ثم استقبلهم قائم المقام الشيخ مصطفى الخطيب، وهو من أهل ينبع. ثم يذكر مشاهداته في شوارع ينبع ويصف ما رأى في سوقها، وبعد ذلك زاروا أمير ينبع عبدالعزيز بن معمر، ويصفه بأنه "شاب نجدي جميل الطلعة وسيم المحيا مقدود قد السيف"، ويصف مجلسه ولبسه ورجاله وصفا دقيقا. وعندما رأى في ينبع أن أهل البلد هم من يتولون المهام وشؤون الإدارة كتب يقول، "وقد شعرنا من أول لحظة أننا في بلاد مستقلة، فلا أجنبي هناك ولا نفوذ ولا سلطان إلا لأبناء البلد، وكل موظف حجازي حتى اللاسلكي عماله ومديره حجازيون، وقد أبى زكي باشا إلا أن يرى هؤلاء العمال وهم يبعثون بتحيتنا إلى سمو الأمير فيصل في مكة كأنما لم يصدق أن لابسي العباءة والعقال يستطيعون أن يحسنوا ما يحسنه الأوروبي من الأعمال الآلية على الأقل". ثم ودّعوا أمير ينبع ابن معمر بعد أن التقطوا معه صورة، وقد أرسل لهم عددا من الخراف هدية.

ظنه امرأة فكان ألف عفريت
بعد ينبع يمضي المازني مع رفاقه إلى جدة، وفي الطريق قابل شابا نجديا ظنه امرأة لأن له ضفائر شعر طويلة، كعادة بعض النجديين آنذاك، ولأنه يكحل عيونه، ولكن سرعان ما تبين له حقيقة الأمر، ورأى ما هاله وأثار إعجابه وتعجبه، فيقول، "ظاهرة عجيبة هذه، النجدي المشهور بوعورة الخلق، يكون في السلم كما رأيته في الحجاز على حظ عظيم من رقة الحاشية والدماثة واللين والطراوة، حتى ليستحيل عليك أن تصدق أن هذا الرجل الذي يكاد يسيل من اللين يحسن أن يركب جوادا أو يضرب بسيف، أو يقوى على حمل رمح، وقد رأيناه يفعل ذلك كله فكأنما ركب الجواد ألف عفريت، ولا أكتم أنا خفناه".

لا فنادق في جدة
يصل صاحبنا مدينة جدة، فيتحدث بتفصيل يطول ذكره، وما قاله، "وعلى أن الآبار مهما كثرت لا تسد حاجات البلاد لأنها تجف وتنشف، ومن هنا فكرت الحكومة السعودية في الآبار الارتوازية وفي استخدام الآلات الحديثة لاستنباط الماء من جوف الأرض، واستوردت عددا منها واتخذتها بالفعل في المدينة ومكة، وهذا خير ما يسعها إلى الآن، مع العناية بالعيون وتعهدها بالإصلاح. وليس في جدة فنادق ينزل فيها القاصدون إليها، وإنما ينزل الناس في بيوت الأهالي، فمن شاء استأجر منزلا بأسره، ومن كان لا يسعه ذلك قنع بغرفة مؤثثة.. أما نحن فكنا ضيوفا على الحكومة، وكان العزم أن ينزلونا جميعا في بيت واحد، ولكن الأعيان تزاحموا علينا، فقسمونا ثلاث فرق، واحدة في بيت الشيخ محمد نصيف، وهو من وجوه جدة وكبار تجارها، وأصله مصري وله مكتبة خاصة، هي أكبر مثيلاتها في الحجاز، وفي داره ينزل على ما سمعنا جلالة الملك عبدالعزيز حين يكون في جدة. والفرقة الثانية في بيت الشيخ الفضل، وهو كاسمه من أهل الفضل والوجاهة، والباقون ستة كان من حسن حظي أني أحدهم نزلوا في دار حسين أفندي العويني، وهو شاب سوري الأصل [الصواب لبناني] نزح إلى جدة لأسباب قومية، واشتغل فيها بتجارة واسعة ربيحة". أما عن الموائد التي حضرها وتعددها وتنوع أطعمتها فيقول، "وليس في نيتي أن أصف كل وليمة حضرتها أو دار دخلتها فإن هذا لا آخر له، فقد كنا نتغدى في بيت ونتناول الشاي في بيت والعشاء في ثالث، وربما تغدينا في جدة وتعشينا في مكة أو العكس. ولكني سأذكر القليل الذي يدل على كثير وينبئ عنه. فقد سمعت أن فريقا من المصريين لا يصدقون أن أهل الحجاز يعرفون الأكل على الطريقة الحديثة، فلهؤلاء أقول، إن الحجاز ليس مجهلا من مجاهل آسيا أو إفريقيا، وإنه وطن الإسلام وإليه يحج المسلمون من أقاصي الأرض وأدانيها، وإنه بلاد متحضرة سوى أنها فقيرة، والفقر لا يمنع من الأناقة ولا يحول دون التهذيب... وليس في الحجاز فنادق أو مطاعم عامة، ولكننا دعينا في كل مكان حتى في قلب الصحراء وتحت الخيام إلى موائد على الطريقة الغربية عليها من الأكل ما يندر أن تقع عليه العين أو يذوقه اللسان حتى في مصر المتحضرة"، ثم يستطرد في ذكر طريقة وأنواع طعام أهل الحجاز وترتيب موائدهم.

الأمن في الحجاز
كان لفتة ذكية من المازني حين انتبه إلى علاقة تصريح الأغنياء بما عندهم وعدم كتمانه بالأمن، ويقول: "والأغنياء هناك لا يدعون الفقر ولا يكتمون مالهم، وإن كانوا لا يضايقون الناس بمظاهر البذخ. والتجارة سوقها رابحة مع الغرب والشرق، والأحاديث صريحة والألسنة طليقة، وفي هذا دلالة على الاطمئنان، وقد كان الناس على ما علمت في العهد السابق يخفون أموالهم ويتظاهرون بالمتربة ورقة الحال خوفا من الابتزاز أو الاقتراض الذي هو في حكم الاغتصاب والمصادرة. أما الآن فيقول لي بعض الأصدقاء، إن الحكومة في آخر العام قد تقفر خزائنها، فتحتاج إلى المال، فتقترض من الأعيان حتى إذا جاء موسم الحج ردت إليهم ما أقرضوها بلا ربا". ثم يذكر أنه سأل السائق وهم في طريقهم من جدة إلى مكة عن الأمن فقال لهم، "الأمن مستتب على أحسن حال، وإنه ما من أحد يجرؤ أن يسرق أو يمد يده إلى شيء في الطريق". ويشير إلى الجهود التي بذلها الملك عبدالعزيز في تأمين الناس على أرواحهم وأموالهم، وأنه كان شديدا في معاقبة اللصوص حتى يؤدبهم فينقطعوا عن فعلهم. ويورد بعض القصص التي سمعها عن الملك عبدالعزيز في توطيد الأمن. 

وعند الذهاب إلى قصر الملك
يصف بدقة بالغة كل مشاهداته وهو خارج من جدة إلى مكة المكرمة، ويذكر أن عصا كانت معه سقطت منه حين توقفت سيارتهم في الرغامة، ولم يعلم بسقوطها، ولكنه تفاجأ عند وصوله إلى مكة أن مدير الشرطة يسألهم هو والوفد الذين معه ما إذا كانت سقطت لأحدكم عصا، إذ إن أناسا عثروا عليها في الطريق فأبلغوا الشرطة. ويواصل المازني وهو في مكة وصفه لكل صغيرة وكبيرة مما شاهده بأسلوب يمتزج فيه المرح بالجد، ثم طوافه بالبيت العتيق، ويصف الكعبة وكسوتها ويورد تفاصيل في ذلك. ويشيد بالجهود التي بذلتها الحكومة السعودية هناك. ثم يتحدث عن ذهابهم إلى قصر الملك، ولما دخلوا قابلوا الأمير فيصل بن عبدالعزيز، نائب الملك، ويصفه المازني وبصف ملابسه بدقة ويذكر عمره الصحيح 24 سنة. وعن قصر الملك يقول إنه يتمتع بالنظافة التامة والبساطة الكاملة. ثم يصف مائدة القصر والمأكولات التي تقدم. وخلال مقامه في مكة اشتهى المازني أن يشرب شيشة، نارجيلة، وتعجب من قلتها في مكة وكثرتها في جدة، ثم شعر بالتردد لأن "الحكومة لا تدخن"، ويتوسع بعدها في الحديث عن الدخان والنارجيلة.

أحاديث أخرى
- تحدث المازني مرارا عن المؤسس، وأشرت إلى بعضها، وفي موضع آخر يذكر أن الملك عبدالعزيز يؤثر السلم على الحرب، ويعلل ذلك "ليتسنى له أن يصلح أموره ويرتب البيت –كما يقول الإفرنج- ويعالج مشكلاته ويوطد حكومته ويقويها ويباشر ما لا مفر منه من وجوه الإصلاح على قدر ما تسمح بذلك موارده".
- ذهب المازني إلى وكالة المالية، وذكر أن الذي يديرها نجدي قح، وأن المستشرق فيلبي قال له إنه من أمهر الرجال وأذكاهم وأحذقهم في سياسة المال.
- وعن التصوير يقول المازني: "والنجديون يسمون الصورة الشمسية (العكس) ولا يرون في التصوير بأسا ولا يكرهون كما كنا نسمع".
رحلة المازني ماتعة، وفيها تفاصيل يطول الحديث عنها، فقد تحدث عن المستشفى والعملة النقدية، والجيش والأسلحة، ووادي فاطمة، وعادات وتقاليد بعض المناطق والقبائل.

شيخ العروبة والمؤسس
أحمد زكي باشا، علامة كبير، وأحد رواد النهضة الثقافية والأدبية في مصر، ومن رواد إحياء التراث العربي، وهو أول من استخدم مصطلح تحقيق في نشر الكتب العربية، ولقب بشيخ العروبة. ولد عام 1284هـ، وتوفي سنة 1353هـ في مصر. زار زكي باشا الملك عبدالعزيز أكثر من مرة، ففي يوم الجمعة 8 ربيع الآخر 1345هـ نشرت جريدة أم القرى خبر وصول شيخ العروبة أحمد زكي باشا ونبيه بك العظمة إلى جدة يوم الأربعاء، ثم وصلا إلى مكة المكرمة يوم الخميس، ونزلا ضيوفا على الملك عبدالعزيز.
في الحادي عشر من المحرم لعام 1345هـ، كان شيخ العروبة، الأديب المصري الكبير، العلامة أحمد زكي باشا (ت 1353هـ) في سفينة جنوى يعبر البحر الأحمر، فتفكر في أحوال العرب ودولهم وحكامهم وزعمائهم في وقته، وتذكر ماضي العرب وأمجادهم، فأخذ قلمه وكتب من عباب البحر مشيدا بما فعله الملك عبدالعزيز، "البحر الأحمر.. أمس واليوم: كان مصدر المجادة لأمتنا، ومنبع السعادة لأجدادنا، حينما كانت الكلمة متحدة، والغاية واحدة. ذلك البحر الذي أصبح اليوم وليس لنا فوقه راية، ولا في مصيره رأي، منذ تخاذل العرب، وانقسموا على أنفسهم، حتى مكّنوا العلجَ من دَوس أعناقهم، ومن إرغام أنوفهم في عقر ديارهم، فأصبحوا فيها غرباء، بل خَوَلا أذلاّء... اللهم إلاّ في البقية الباقية لنا وسط جزيرتنا العربية المقدسة". وقد نشرت كلمات شيخ العروبة في الصفحة 244 من العدد الثالث من مجلة الحديقة عام 1345هـ، التي كان يصدرها في مصر الشيخ محب الدين الخطيب.
وفي 23 ربيع الآخر لعام 1345هـ نشر أحمد زكي باشا مقالة بعنوان "في سبيل الله، ومن أجل الوحدة العربية"، تحدث فيها عن تاريخ العرب عامة، ثم تحدث عن وضع مناطق من الجزيرة العربية، وكيف كانت ممزقة إلى عدة دويلات، فاستطاع الملك عبدالعزيز توحيدها، وصارت مقاليدها بيده، وهي على حد وصف شيخ العروبة، "يد بدوية قوية خرجت من وكرها في البيداء وهي نقية صافية، فأولاها من الكرامة منتهاها، وشرفها بخدمة الحرمين، تلك اليد البيضاء بغير سوء هي يد الإمام عبدالعزيز آل فيصل ابن السعود، أيده الله ما دام هو وبيته وقومه رافعين عاملين على الاحتفاظ بجزيرة العرب للعرب".
ثم زار أحمد زكي الحجاز وقابل المؤسس مع الوفد الذي أشرت إليه، وألقى خطابا نشر في جريدة أم القرى بتاريخ 13 شعبان 1348هـ بيّن فيه ما يكنه العرب من مشاعر ود تجاه الملك عبدالعزيز، وقال ضمن كلمته: "أتقدم إليكم بالشكر يا أبناء العرب، بالشكر الخالص، لأنكم برهنتم لنا في هذه الرمال الصافية نجاحا باهرا، كان العرب ينقصهم شيء واحد، وقد أرسله الله، ألا وهو جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود".

رضا والزركلي
 أما الأديب والصحفي محيي الدين رضا فقد أخذ منه الإعجاب مأخذه فكتب عن الملك عبدالعزيز في عدة كتب منها كتاب "رحلتي إلى الحجاز"، وكتاب "صور ومشاهدات من الحجاز"، وكتاب "في الحجاز"، وكتب عنه كتابين هما "لمحة من سيرة الملك عبدالعزيز"، وكتاب "طويل العمر الملك عبدالعزيز آل سعود بمناسبة يوبيله الذهبي". ومثله الأديب والشاعر الكبير خير الدين الزركلي، الذي عمل في المملكة العربية السعودية وترقى في عدة مناصب آخرها سفير للسعودية في المغرب، ولشدة إعجابه بالملك المؤسس خصص عنه كتابا ضخما بعنوان "شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز"، وكتابا مختصرا "الوجيز في سيرة الملك عبدالعزيز"، وكتاب ثالث لم ينشر بعنوان "الملك عبدالعزيز في ذمة التاريخ".

الأكثر قراءة