لماذا العودة إلى الحروب التجارية؟
تتصاعد وتيرة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة من جهة وبقية دول العالم من جهة أخرى. فبعد دخول التعرفة الجمركية الإضافية بنسبة 25 في المائة على واردات الولايات المتحدة من الصلب و10 في المائة على الألمنيوم حيز التنفيذ بداية الشهر الجاري، فإن ترمب يعمل على إقرار تعرفة جمركية جديدة على واردات صينية مختلفة، تصل قيمة إجمالي هذه الواردات إلى 50 مليار دولار في السادس من تموز (يوليو). الرد الصيني الطبيعي على الرسوم الإضافية كان بالتخطيط لفرض رسوم مماثلة على الصادرات الأمريكية، فكان الرد الأمريكي بزيادة حجم البضائع الخاضعة لرسوم جمركية إضافية إلى 200 مليار دولار من البضائع والخدمات، وبتعرفة 10 في المائة.
بهذا الشكل، ستستمر الحمائية التجارية في الاحتدام، مؤثرة في آفاق النمو الاقتصادي العالمي. فقد أبدت مديرة صندوق النقد الدولي مخاوفها من أن استمرار الحرب التجارية سيشكل خسارة لكل الأطراف. وكذلك كانت ردة فعل أسواق المال العالمية والأمريكية خصوصا، التي محت في جلساتها الأخيرة كامل مكاسب العام. فعلى الشركات الأمريكية العاملة دوليا، أن تتحمل تكاليف وأعباء إضافية؛ بسبب وقوع جزء كبير من سلاسل إمداد منتجاتها وخدماتها في دول متضررة من التعرفة الجمركية الجديدة. فبعد اتجاه العالم في العقود الأخيرة إلى عولمة التجارة العالمية، والفوائد التي جناها الاقتصاد العالمي من جراء هذه العولمة بزيادة الإنتاجية وخفض تكاليف الإنتاج، فإن العودة إلى التركيز على عجز الميزان التجاري ستشكل انتكاسة كبيرة.
الاقتصاد الأمريكي يمر اليوم بأفضل حالاته منذ أزمة كساد نهاية العقد الماضي. فالاقتصاد الأمريكي أكمل مرحلة التعافي، خصوصا في قطاعه المصرفي القوي. الناتج المحلي الإجمالي ينمو بنحو 2.2 في المائة، والتضخم الأساسي يقف عند النسبة نفسها، وهي مقاربة لما يستهدفه الاحتياطي الفيدرالي. وكذلك فإن معدل البطالة هو الأدنى منذ الحرب العالمية الثانية. فلماذا تصر الولايات المتحدة على التصعيد؟ وهل الفوائد المرجوة أكبر من المضار الملموسة التي تتوقعها الأسواق؟
بداية الأمر كان الحديث عن إعادة الوظائف إلى الولايات المتحدة، ولما تبين انخفاض معدل البطالة، تحول إلى معاقبة الصين على خروقاتها للحماية الفكرية، وهو أمر ليس بالجديد ولا يكافح بزيادة التعريفة. تم التحول إلى خفض العجز التجاري الأمريكي، ولكن الولايات المتحدة تعلم جيدا أن عجزها التجاري هو ما يمول العالم بالدولارات، ويحفز نمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي زيادة الطلب على منتجاتها في المستقبل.
الحمائية التجارية لعبة يخسر فيها الجميع؛ ولكن نظرا لموقف الاقتصاد الأمريكي القوي اليوم، قد تكون أكثر قدرة على تحمل الخسائر. ولذلك فإن الهدف من الحرب التجارية ليس إعادة التوازن إلى الميزان التجاري بين أمريكا وبقية العالم بقدر ما هو محاولة لفرض الهيمنة الاقتصادية. ترمب يعمل على استغلال التقدم الأمريكي مرة عبر إعادة التفاوض على اتفاقيات التجارة، ومرة أخرى بلعبة عض أصابع يعلم جيدا أنه سيخسر فيها بعض الشيء، ولكن ليس بقدر خسارة الأطراف الأخرى. ولذلك يبدو أن الهدف من هذه الحرب ليس المكاسب السريعة في أرقام نمو الاقتصاد الأمريكي، إنما في زيادة حصة الاقتصاد الأمريكي من إجمالي الاقتصاد العالمي على حساب الدول النامية. فأمريكا تريد البقاء كمحرك للاقتصاد العالمي، والاحتفاظ بجميع أوراق الضغط، التي بدأت استخدامها في هذه الحرب التجارية مستبقة التحول عنها.