من أين يأتي النمو في المستقبل؟
النمو هو أهم رقم يتابعه الاقتصاديون والمحللون، وهو كذلك الشغل الشاغل لكل من يعمل في رسم السياسة الاقتصادية على المستويات كافة. أهمية النمو الاقتصادي تنبع من كونه الرافد الأهم للازدهار والرفاهية الاجتماعية. فمع النمو الاقتصادي تتحسن الخدمات، وتزداد وفرة، بل تتطور إلى مستويات أكثر تقدما، خصوصا الأساسية منها، مثل الصحية والتعليمية.
وكذلك، فإن للنمو الاقتصادي جانبا مهما آخر، هو ارتفاع مستويات الدين العام على مستوى العالم إلى معدلات مقلقة. فمن دون فكرة النمو المستدام، التي يروج لها الاقتصاديون، لن يقدر أي اقتصاد اليوم على أن يقترض ويوسع العجز في موازنته عن طريق زيادة الإنفاق، إلا لو كان هذا الإنفاق يكرس لمزيد من النمو مستقبلا، بشكل يضمن أن الاقتصاد في المستقبل أكبر منه اليوم، وبذلك يمكننا اقتراض بعض ما سننتجه في المستقبل، دون أن نحمل الأجيال التالية أحمالا تفوق طاقتهم.
أخيرا، فإن هناك عامل النمو السكاني؛ حيث متى ما تفوق النمو الاقتصادي على معدلات النمو السكاني، فإن النتيجة تكون مزيدا من الرفاهية لجميع السكان، وهو ما كان يحدث في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم؛ حيث انخفضت معدلات الفقر المدقع إلى مستويات لم تشهدها البشرية قبل ذلك. كل هذا كان ممكنا كنتيجة طبيعية للنمو الاقتصادي، الذي كان بدوره مدفوعا دائما من التقدم التكنولوجي.
نظرية المنفعة الاقتصادية المتناقصة تفسر لنا سعي البشرية وراء الموارد السهلة أولا. ومتى ما احتاج الاقتصاد إلى مزيد من المورد نفسه، فإن تكاليف توفيره ستتصاعد، وتزداد صعوبة الحصول عليه. وتنطبق هذه النظرية على جميع الموارد الطبيعية، مثل النفط والفحم والمعادن كافة، كما أنها تنطبق بدرجة أقل على البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا. فحاجتنا إلى اختراعات وابتكارات علمية تدعم النمو الاقتصادي باتت أكثر إلحاحا اليوم من أي وقت سبق. خصوصا بعد الهزة التي مر بها الاقتصاد العالمي في العقد الذي أعقب أزمة الائتمان العالمي في 2009.
ولكن بسبب المنفعة المتناقصة، بات على البشرية تكريس مزيد من الموارد للبحث العلمي والتطوير؛ لإنتاج تقنيات جديدة لها الأثر الاقتصادي نفسه. على الجانب الآخر، نجد أن الاستثمار في التقنية يختلف عن باقي الموارد والصناعات؛ ذلك لأنه متى ما تم اكتشاف تقنية جديدة، فإن تكلفة الإنتاج لكل وحدة جديدة تدفع إلى الانخفاض؛ ما يعني أن التكلفة الأساسية للتقنية تكمن في البحث والتطوير، وأن الانتفاع الأقصى منها لا يتم إلا بزيادة الانتشار والاستخدام للتقنية الجديدة.
الأمر الذي يؤكد لنا ضرورة حصول اختراق كبير قادم في المجالات الصاعدة، وأهمها تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وما يمكن أن يتفرع تحت هاتين التقنيتين من بيانات ضخمة وطباعة ثلاثية الأبعاد وغيرهما من المجالات. ولكن حتى تؤتي هذه التقنيات أكلها، فهي في حاجة إلى الانتشار، كما حصل مع الإنترنت في بداياتها، فتنتج عنها ثورة صناعية جديدة مماثلة للثورة الرقمية، التي قادت عجلة النمو الاقتصادي في بدايات الألفية.