العالم .. والعصر الرقمي المتجدد
لقد نقل العالم مسافة أكبر داخل العصر الرقمي - حقبة عالمية من التغيرات التي سيكون تأثيرها المحتمل على الاقتصاد العالمي أعظم بنحو مرتين إلى ثلاث مرات من تأثير الثورة الصناعية. فقد شهد العامان الماضيان فقط إيجاد نحو 90 في المائة من إجمالي البيانات على مستوى العالم. وقد تبلغ كمية البيانات المخزنة بحلول عام 2020، 50 ضعفا ما كانت عليه في عام 2010. وينظر عديد من الخبراء إلى هذا الانفجار الهائل في البيانات باعتباره النفط الجديد، بل حتى فئة جديدة من الأصول.
وتتغذى هذه الوفرة من البيانات على شبكة الإنترنت التي أصبحت في كل مكان تقريبا. ومن المتوقع أن تعمل الهواتف الذكية على توصيل وربط اثنين إلى ثلاثة مليارات مواطن عالمي إضافيين بحلول عام 2020، في ظل المليارات من أجهزة الاستشعار الآلية التي تراقب عمل كل شيء من الجرارات الزراعية إلى محركات الطائرات النفاثة، فضلا عن مزيد من التطورات المفاجئة في القدرة الحاسوبية التي ستعمل على تمكين زيادات هائلة في القدرة على تخزين وتحليل البيانات.
وفي هذه البيئة، فإن سلاسة وتدفق عملية إدارة البيانات والتحليل ستشكل أهمية بالغة في إدارة المنظمات الناجحة. وقد توصلت دراسة أعدت بواسطة إيريك براينجولفسون وزملائه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن الشركات التي تبني عملية صنع القرار على البيانات كان معدل الإنتاجية لديها أعلى بنحو 5 إلى 6 في المائة مقارنة بتلك التي لا تفعل ذلك. فالآن أصبحت القدرة على التقاط وتنظيم واستخراج الأفكار وتنفيذها من البيانات من الكفاءات الأساسية في كل صناعة وعبر كل قطاع.
تنتشر الاختراقات الناتجة عن بوتقة البيانات والتحليل الجديدة عبر القطاعين العام والخاص. ويستخدم موقع الفيديو الشهير نتفليكس قاعدة بياناته الضخمة من عمليات بحث المستخدمين ووجهات نظرهم ووقفاتهم ومراجعاتهم لتصميم سلسلة "بيت من ورق" المصنوعة خصيصا لشبكة الإنترنت. وقد جمعت السلسلة بين مدير شهير "ديفيد فينشر"، وممثل "كيفين سباسي"، وحبكة مستعارة من استعراض بريطاني شهير بالعنوان نفسه - وسجلت كل هذه العناصر ترتيبا عاليا على مقاييس الشعبية التي يستخدمها موقع نتفليكس. وفي صناعات أخرى أيضا، تتحول عملية صنع القرار القائمة على البيانات في ما يتصل بتطوير المنتجات وصنعها وتفاعلات العملاء بسرعة إلى معيار مكمل للحدس والخبرة "وفي بعض الأحيان الذي يحل محلهما". وتعمل أيضا على تبسيط سلاسل الإمداد، وتنقية جداول القوى العاملة، وتحسين عمليات التصنيع.
ومن المرجح أن يحدث اختراق أكثر أهمية في مختلف الصناعات، مع إعادة رسم خطوط المعركة التنافسية بفعل امتياز الوصول إلى البيانات الخاصة بالملكية. وستمتلك الشركات التي لديها مجموعات من البيانات العميقة قدرة متزايدة على اللعب في أسواق خارج مجالاتها التقليدية - والآن تغتنم الشركات الكبرى الفرصة بالفعل. ففي "علي بابا"، وهي شركة صينية للتجارة الإلكترونية، يستطيع البائعون الصغار ومتوسطو الحجم على شبكتها طلب الائتمان أيضا. وقد مولت شركة علي بابا رأس المال العامل لنحو 320 ألف شركة "قيمتها تتجاوز 16 مليار دولار" باستخدام البيانات المتعلقة بالصفقات والمعاملات التجارية لتمويل الإقراض - كما فعلت هذا بكفاءة أكبر من المصارف العادية. والحكومات أيضا بدأت تستشعر أن تحليل البيانات من الممكن أن يغير مكانتها العالمية. فقد أقرت سنغافورة على سبيل المثال خطة رئيسة مدتها عشر سنوات تركز على تطوير نظام معلوماتي قوي وصناعة اتصالات قوية، بما في ذلك تحليل البيانات. وأخيرا، أطلقت السلطات هناك مبادرة البيانات المفتوحة، التي من شأنها أن تجعل كميات هائلة من البيانات الحكومية متاحة بسهولة.
ولكن على الرغم من اعتراف عديد من المنظمات بأهمية تحليل البيانات، فهناك تباين واسع في مدى القوة التي تتحرك بها نحو تبني هذا النهج. والآن تتجه المؤسسات التي تبنت هذا النهج في وقت مبكر مثل "أمازون" و"تيسكو"، التي تعمل بسرعة على بناء القواعد الأساسية للموهبة والخبرة، إلى زيادة جهودها في تعظيم تأثير التحليل على منظماتها "وذلك باستكشاف فرص الاختراق". ولكن هناك عديد من المنظمات الأخرى التي لا تزال تجري التجارب على نطاق ضيق وتسعى إلى استئجار أول العلماء المتخصصين في تحليل البيانات. والنبأ الطيب هنا، هو أن عديدا من الشركات ستتمكن من التعجيل بوتيرة التغيير. وتعد الموهبة من بين المناطق الواعدة في هذا المجال. إن استغلال إمكانات تحليل البيانات يتطلب مجموعات عميقة من الخبرات الفنية المتقدمة. ومن المؤكد أن العمال المهرة في مجال إدارة البيانات والتحليل المتقدم غير متوافرين بكثرة، وكذلك حال فئة ناشئة من "المترجمين" - أولئك الذين تشكل مواهبهم جسرا بين تكنولوجيا المعلومات والبيانات والتحليل وعملية صنع القرار في عالم التجارة.
يساعد التقدم السريع في التكنولوجيا أيضا في تيسير إدراك التأثير الذي يخلفه تحليل البيانات. ويتلخص أحد أكبر التحديات التي تواجه عديدا من الشركات في تحويل الأفكار من النماذج الإحصائية إلى تغييرات حقيقية في العمليات اليومية. وكان الأفراد على الخطوط الأمامية يفتقرون إلى أدوات البديهة التي تربط الأفكار بالعمل. ولكن تقدم سبل تصوير البيانات، وتسارع دورات تطور التطبيقات، والتوسع في طرح التكنولوجيا في أسواق المستهلكين، تعمل على تغيير هذا الواقع، فتضع حلولا مصممة خصيصا وسهلة الفهم بين أيدي المديرين.
على سبيل المثال، تجمع شركة المناخ التي استحوذت عليها "مونسانتو" أخيرا أكثر من 30 عاما من بيانات الطقس، و60 عاما من البيانات الخاصة بإنتاجية المحاصيل، وكميات هائلة من المعلومات عن أنواع التربة. ومن خلال هذا المخزون الهائل من المعلومات التاريخية والبيانات المتطورة، تقدم الشركة المشورة في مقابل رسوم للمزارعين عبر بوابة على شبكة الإنترنت.
ومع سعي المنظمات إلى اغتنام هذه الفرص لتوظيف الإبداع أو تعزيز العائدات أو زيادة الإنتاجية، فإن فرق القيادة ستحتاج أيضا إلى الضبط. ومن المرجح أن يتطلب الأمر اكتساب قدرات إدارة جديدة لتحديد الاستراتيجيات الجديدة القائمة على البيانات، وإدارة المخزونات الهائلة الجديدة من المعلومات، والوصول إلى شركاء جدد، وإدارة الوظائف المتقاطعة، وحشد طاقات المنظمة حول مهمة جديدة.
إن الشركات تبدع على المستوى التنظيمي بشكل دائم. ففي عام 1961، أصبحت "أمبيكس"، وهي شركة إلكترونيات في كاليفورنيا، أول شركة تستخدم رسميا مصطلح "الرئيس التنفيذي المالي". واليوم أصبح هذا الدور منتشرا في كل مكان.
وقد يتطلب حمل لواء الريادة في العصر الرقمي إيجاد أدوار جديدة، مثل الرئيس التنفيذي الرقمي، أو الرئيس التنفيذي التحليلي، أو رئيس البيانات التنفيذي، ولو أن قلة من الشركات نسبيا اتخذت هذه الخطوات بالفعل. وفي المستقبل سيتطلب النجاح الإجمالي لأي منظمة أن يكون القائد المسؤول عن مثل هذه القدرات عضوا موضع ثقة بين أعضاء فريق الإدارة العليا.
والواقع أن قلة من القادة نجحوا في تربية عضلات إدارية في مجالات جديدة تماما وفي الوقت نفسه تكوين الفرق التي تجمع بين أنماط غير معروفة سابقا من المواهب. وتواجه الخيارات الاستراتيجية تضاريس جديدة بالقدر نفسه، وربما على غرار ما حدث عندما فتحت وسائل الإعلام الجماهيرية حقبة جديدة من التسويق، أو عندما فرضت العولمة إعادة التشكيل الجذرية للبصمات التنظيمية.
وسيحتاج الرؤساء التنفيذيون ومجالس إداراتهم إلى وضع أولويات جديدة، والاستثمار بحكمة، والاستعداد لدعم التجريب. وعندما تصبح الاختراقات الكبرى مؤكدة، فإن المكافآت الهائلة المحتملة ستعود على هؤلاء الذين يملكون الاستعداد للتحرك بجرأة وسرعة مع التيقظ للمخاطر المحيطة.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت