الاقتصاد العالمي والإنتاجية والركود
مكمن الخوف الحقيقي ليس المخاطر المرتبطة بالتحديات القصيرة الأمد مثل عودة اليابان إلى الركود أو التباطؤ الدائم في منطقة اليورو؛ بل الرياح المعاكسة العاصفة التي سيواجهها العالم بأسره على مدى السنوات الـ 50 المقبلة.
رغم فترات الصعود والهبوط المرهقة للأعصاب، فإن الـ 50 عاما الأخيرة جلبت معها مكاسب عالمية غير مسبوقة. فوفقا لأرقام الناتج المحلي الإجمالي "الذي أعترف بأنه مقياس معيب"، توسع الاقتصاد العالمي بمقدار ستة أضعاف، وتضاعف نصيب الفرد في الدخل ثلاث مرات تقريبا.
وفي العالم النامي، أدى إيجاد الثروة المستدام والتقدم في مجال الصحة العامة إلى زيادة متوسط العمر المتوقع بنحو 20 عاما منذ منتصف سبعينيات القرن الـ 20، وانخفضت الأمية بين الكبار إلى النصف تقريبا في السنوات الـ 30 الماضية. وضاقت فجوة التفاوت بين البلدان، مع انتشال أكثر من مليار شخص من براثن الفقر المدقع في العقدين الأخيرين فقط.
لكن إذا تابعنا العمل كالمعتاد، فإن احتمالات تحقيق تقدم مبهر مماثل على مدى السنوات الـ 50 المقبلة لن تكون واعدة حقا. منذ عام 1964، عملت قوتان رئيستان على تغذية نمو الناتج المحلي الإجمالي بسرعة استثنائية: توسع المعروض من العمالة مدفوعا بالزيادة السكانية السريعة، ومكاسب الإنتاجية المطردة. ووفقا للتقرير المرتقب الذي سيصدره معهد ماكينزي العالمي، فإن متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 3.5 في المائة في البلدان الأعضاء الـ 19 في مجموعة العشرين "الاتحاد الأوروبي ليس بينها" ومعها نيجيريا ينقسم إلى 1.8 في المائة تقريبا للعمالة ونحو 1.7 في المائة للإنتاج. ولكن مع تراجع الخصوبة وزيادة الشيخوخة السكانية، فإن إسهام محرك العمالة في النمو سيسجل هبوطا حادا، إلى ما يزيد قليلا على 0.3 من النقطة المئوية من النمو السنوي. وحتى إذا استمرت الإنتاجية في الارتفاع بالمعدل نفسه، فقد يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يزيد قليلا على 2 في المائة سنويا في المتوسط ــ بانخفاض بنسبة 40 في المائة عن السنوات الـ 50 الماضية.
والنبأ الطيب هنا هو أن هذا المسار من الممكن أن يرتفع، لكن هذا يتطلب تحولا من التركيز على تضييق فجوة التفاوت إلى تحقيق النمو الذي يستفيد منه الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة أيضا.
وقد لاحظ المؤرخ بن فريدمان أن "المسألة المركزية" في تاريخ الولايات المتحدة ليست "فقر الأكثر حرمانا" أو "نجاح الأوفر حظا"؛ بل هي "الرفاهية الاقتصادية للأغلبية العريضة" من السكان. ويصدق القول نفسه على المستوى العالمي، مع صعود مليارات من المستهلكين الطامحين للانضمام إلى الطبقة المتوسطة.
وعلى جانب سوق العمل، يتمثل الداعم الأكثر قوة لتعزيز رفاهية الأغلبية في زيادة مشاركة النساء في سوق العمل، اللاتي لا يزال معدل مشاركتهن في قوة العمل متخلفا عن معدل مشاركة الرجال بنسبة تصل إلى 40 في المائة على مستوى العالم. لكن ضم مزيد من النساء إلى قوة العمل يستلزم تحسين خدمات رعاية الطفل وغير ذلك من أشكال الدعم الاجتماعي في عديد من البلدان، فضلا عن تحقيق مزيد من التقدم في مجال المساواة في الأجور، بما في ذلك الضريبة الأكثر مساواة لمستحق الكسب الثاني.
علاوة على ذلك، تشير تقديرات معهد ماكينزي العالمي إلى أن معالجة الحواجز مثل سن التقاعد الإلزامية، والحوافز الضريبية الضارة من الممكن أن تضيف نحو 200 مليون عامل فوق سن 65 عاما إلى مجموع العمالة في العالم. ولا شك أن الجهود الرامية إلى الحد من البطالة بين الشباب ستساعد أيضا.
الواقع أن هذه التغييرات، رغم كونها مهمة، ستكون محدودة الأثر، إذ إنها سترفع مساهمة العمالة في النمو مستقبلا بما لا يتجاوز خمس إلى ثلث مستويات ما بعد الحرب. وما يتعين على العالم أن يقوم به حقا هو تسريع الإنتاجية ــ ليس بوتيرة متواضعة، بل بسرعة بالغة.
من حسن الحظ أن مختبرات القطاع الخاص اليوم تعج بالإبداعات القادرة على إدخال تحسينات تكنولوجية وتشغيلية كبرى معززة للإنتاجية. فالمواد المتقدمة مثل صفائح النانو "دهون صالحة للأكل" من الممكن عند رشها على الأغذية أن توفر الحماية من الهواء أو الرطوبة وأن تقلل من تلفها. وتدخل مركبات الألياف الكربونية في صناعة السيارات والطائرات الأكثر قدرة على المقاومة والأخف وزنا، وهذا من شأنه أن يقلل من استهلاكها الوقود. وستعمل فكرة "إنترنت الأشياء" على ترشيد عمليات الإنتاج من خلال الكشف عن أشكال الفشل المحتملة في وقت مبكر، وزيادة إنتاجية المحاصيل عن طريق قياس رطوبة الحقول والحد بشكل كبير من تكاليف مراقبة صحة المرضى عن بعد.
وعلى مسافة أبعد قليلا على جبهة الإنتاجية هناك السيارات والشاحنات الذاتية القيادة والمجدية تجاريا، وعلى نحو مماثل، ستصبح البيولوجيا التخليقية ممكنة قبل أن تمر فترة طويلة، مع استخدام العلماء كمية هائلة من البيانات الجينية المتاحة بتكلفة زهيدة بشكل متزايد بهدف تصميم الحمض النووي من الصِفر ــ وهي ممارسة لها تطبيقات في الطب، والزراعة، بل حتى إنتاج الوقود الحيوي.
لكن القطاع الخاص لا يمكنه تحقيق هذه الإمكانات وحده. إن أغلب البلدان تحتاج إلى زيادة استثمارات القطاع العام لدعم مشاريع البحث والتطوير الأساسية الطويلة الأجل، والتنظيم الأذكى والأكثر دعما للإبداع من أجل تحقيق المكاسب في المستقبل. ولأن الفرص الأكبر تكمن في تحفيز الإنتاجية الأسرع من خلال تبني ونشر أفضل ممارسات اليوم، فيتعين على الساسة أن يستمروا في ممارسة الضغوط من أجل خفض الحواجز التجارية والتنظيمية التي تحول دون تكامل الأسواق وتعزيز المنافسة.
ولعل الأمر الأكثر أهمية يتمثل في ضرورة جعل الأسواق مرنة قدر الإمكان، حيث ينعم العمال من ذوي التدريب الجيد بالتأمين من قبل شبكات الأمان الاجتماعي القوية. وهذا من شأنه أن يمكن العمال من تحمل الانتقال إلى وظائف المستقبل والسماح للاقتصاد بالاستفادة من موجات جديدة من الثروة والتدمير الخلاق المولد للقيمة. ومن الجدير بنا أن نتذكر أن أكثر من ثلث نمو الوظائف في الولايات المتحدة منذ عام 1990 كان ناتجا عن وظائف لم يكن لها وجود أو كانت موجودة بالكاد قبل 25 عاما.
وقد ترغب بعض البلدان حتى في تعيين "حاكم للنمو" يعمل على الربط بين كل هذه النقاط. لكن في نهاية المطاف، ليست أرقام النمو الفعلية هي بيت القصيد. بل إن ما يهم حقا هو ضمان تحسن رفاهية أكبر عدد ممكن من المواطنين، وهذا يتطلب العمل المتضافر من قبل كبار رجال الأعمال، والحكومات، ومنظمات المجتمع المدني.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت