الأزمة المالية المقبلة ومدى تأثيرها
التاريخ يعيد نفسه. هذه العبارة يستخدمها بعض علماء التاريخ للدلالة على أن تكرار الأحداث التاريخية أمر محتوم، لكن هناك من يرفضها خصوصا في الأحداث التي تلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي أدت إلى النظام العالمي الذي نعيشه اليوم. أما في علم الاقتصاد، خصوصا عند دراسة الأزمات المالية ودورة الدين، فإن راي داليو يؤكد أنه لا مفر من تكرار الأزمات، بغض النظر عن تبعاتها وآثارها العميقة. يقسم راي دورة الدين إلى ست مراحل، في المرحلة الأولى يتم بناء الدين في النظام المالي لزيادة الإنتاجية، ويترافق مع زيادة الدين نمو اقتصادي بشكل يؤدي إلى زيادة أسعار الأصول. في المرحلة الثانية تتفاقم نسبة الديون إلى الأصول نظرا إلى اعتقاد الناس أن أسعار الأصول ستستمر في الارتفاع، وبالتالي - ولزيادة أرباحهم - فإنهم يقترضون المزيد، على أمل استمرار أسعار الأصول في الارتفاع وتحقيق أرباح منها. عند هذه النقطة، ومتى ما وصلت أسعار الأصول إلى نقطة حرجة لا تتناسب مع حجم الحراك الاقتصادي تنفجر فقاعة الأصول، وتتجمد حركة الدين وبالتالي تنعدم السيولة. ونظرا إلى انخفاض أسعار الفائدة في المراحل السابقة وقربها من الصفر، لا يبقى أمام البنوك المركزية إلا طباعة الأموال لتحفيز الاقتصاد. هذه المراحل السابقة تلخص ما مر العالم به قبل وبعد أزمة الدين العالمية لعام 2008.
عملية طباعة الأموال تركز على شراء الأصول المالية لتحفيز الاقتصاد، وبالتالي ترتفع أسعارها وتستفيد الطبقة التي تمتلك هذه الأصول بشكل كبير، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى توسيع الفجوة في الثروة بين الأغنياء الذين يملكون الأصول المالية وبين الطبقة المتوسطة، التي تحرك الاقتصاد. ولذلك تشهد هذه المرحلة صعودا للصيحات الشعبوية على المستوى السياسي التي تلعب على الوتر العاطفي للجماهير، بدعاوى حمائية قد تكون المحرك لأزمة عالمية مقبلة. فمع صعود أسعار الفائدة واستنفاد الفائدة المرجوة من التوسع في طباعة الأموال، فإن ذلك سيؤدي لا محالة إلى تباطؤ الاقتصاد، وهو ما بدأ في الحدوث اليوم في الاقتصاديات الناشئة مثل تركيا والأرجنتين، لكن الوجه الأهم لهذا الصراع يكمن بين القوة العالمية الصاعدة، وهي الصين، والقوة العالمية الحالية، الولايات المتحدة. فالشعبوية ستكرس استمرار النزعة الحمائية، وكلما احتدمت فستزداد الخسائر في الإنتاجية وبالتالي النمو العالمي.
على الرغم من زيادة الترابط الاقتصادي بين دول العالم، إلا أن الأزمة المقبلة لن تكون حادة وشاملة مثل أزمة عام 2008، وقد تكون فرصة للاقتصاد السعودي، فتصنيف الاقتصاد السعودي كاقتصاد ناشئ غير دقيق تماما، حيث إن سعر الصرف الثابت يعطيه استقرارا لا يتوافر لبقية الاقتصادات الناشئة وكذلك تدعم أسعار النفط في مستوياتها الحالية الميزانية العامة وتخفض العجز، كما توفر الاحتياطيات المالية مرونة عالية. ولذلك يمكن أن تشهد مرحلة الأزمة المقبلة اندفاع رؤوس الأموال التي تبحث عن العوائد إلى السعودية، خصوصا مع الإصلاحات الجارية وزيادة سعة الاقتصاد عن طريق الاستثمار في قطاعات اقتصادية جديدة.