قيم ومبادئ أداء العمل
عندما يتسلم أحدنا وظيفة في مؤسسة، سواء أكانت حكومية أو خاصة، تبرز قضية المسؤولية كعامل رئيس للنجاح في أداء العمل الذي تتطلبه هذه الوظيفة، والإسهام بالتالي في نجاح أعمال المؤسسة المعنية. ولا تقتصر متطلبات مسؤولية أداء العمل الوظيفي على تناسب الجانب التخصصي للوظيفة مع تخصص مؤهلات صاحبها، أي على جانب المعرفة بالعمل والخبرة فيه، وإنما تشمل مختلف جوانب سلوك الإنسان وروح المسؤولية لديه، والأسس الأخلاقية التي يستند إليها.
تضع المؤسسات عادة لوائح لتنظيم سلوك العاملين لديها، وتحديد القيم والمبادئ الأخلاقية التي يجب الالتزام بها. صحيح أن الأخلاقيات أساسا فطرة في الإنسان، إلا أن ذكرها كمتطلبات في لوائح المؤسسات، وبما يتناسب مع طبيعة عملها، تذكير وتأكيد حميد للقائمين عليها. ومن أمثلة هذه اللوائح، تلك التي وضعتها "منظمة العمل الدولية ILO" عام 2009 تحت عنوان "مبادئ أداء العاملين في المنظمة". وتأتي أهمية هذه اللائحة من أنها صادرة عن المنظمة الدولية المتخصصة في شؤون العمل في إطار "الأمم المتحدة UN"؛ وأنها تجمع بين العاملين فيها موظفين ينتمون إلى مختلف دول العالم، ويتمتعون بأصول عرقية وثقافات مختلفة، وربما بآراء مختلفة أيضا؛ لكن عليهم الحرص على نجاح أعمالهم، ونجاح المنظمة في رعاية شؤون العمل على مستوى العالم.
انطلاقا مما سبق، يناقش هذا المقال، "القيم المطروحة" في لائحة "منظمة العمل الدولية ILO" الخاصة "بمبادئ أداء العاملين في المنظمة". وفي سبيل ذلك، يلقي المقال الضوء على ما تتضمنه اللائحة بشأن هذه القيم؛ ثم يقدم تساؤلات بشأنها، بما يسهم في توسيع دائرة النظر إلى متطلبات أداء العمل، ومقومات النجاح فيه. تشمل القيم المطروحة مجالات متعددة تتضمن: "النزاهة Integrity"؛ و"المهنية Professionalism"؛ و"احترام التعددية Respect for Diversity"؛ و"العمل كفريق Teamwork". وإضافة إلى ذلك، تطرح اللائحة، عبر التفاصيل التي تقدمها، مجالين آخرين من القيم هما: "الحماية والأمن Protection& Security"؛ و"النشاطات الخارجية Outside Activities".
تتمتع قيم "النزاهة" بأهمية كبيرة في مختلف جوانب حياة الإنسان. وتحدد منظمة العمل الدولية خمسة متطلبات رئيسة لتحقيق هذه القيم. يقضي المتطلب الأول بالالتزام برسالة المنظمة، وتوجهات المنظمة الأم، أي "الأمم المتحدة"، والسعي إلى إبراز ذلك. ويركز المتطلب الثاني على توخي مصلحة المنظمة في أداء العمل بعيدا عن المصلحة الشخصية. ثم يقضي المتطلب الثالث بتجنب تأثير الضغوط من خارج المنظمة على القرارات التي يجري اتخاذها. ويهتم المتطلب الرابع بأن تكون مصلحة المنظمة منطلقا لعملية اتخاذ القرار. ويأتي أخيرا المتطلب الخامس ليدعو إلى فورية اتخاذ الإجراءات اللازمة عند حدوث انتهاكات مهنية أو مخالفات أخلاقية.
وننتقل إلى القيم "المهنية" التي ترتبط بجوهر أداء العمل الوظيفي المنشود. وهناك، في هذا المجال، ستة متطلبات تتضمن، في إطار عمل المنظمة، التالي: إظهار منجزات العمل وفوائدها؛ وإبراز الإمكانات المهنية وتميزها؛ ومراعاة الضمير والكفاءة في الإنجاز وتقديم النتائج؛ وتفضيل الجانب المهني في توجهات العمل على الجانب الشخصي؛ والمثابرة في العمل على حل المشاكل ومواجهة التحديات؛ والمحافظة على الهدوء والتماسك في العمل مهما كان هناك من أسباب للتوتر.
ونأتي إلى قيم "احترام التعددية"، حيث تتمتع هذه القيم بأهمية خاصة في المنظمات الدولية التي تستقطب لعملها موظفين من مختلف أنحاء العالم. ولهذه القيم خمسة متطلبات تشمل: العمل بفاعلية مع الجميع دون النظر إلى انتماءاتهم وثقافاتهم؛ والتعامل معهم باحترام؛ ودون تفرقة بين الذكور والإناث؛ ومراقبة الانحياز الذاتي وضبط السلوك نحو الموضوعية بعيدا عن الانطباعية؛ وعدم التمييز ضد أي فئة من الناس.
ونصل إلى قيم "العمل كفريق"، فالعمل الوظيفي في مختلف المجالات ليس فرديا فقط، وإنما جماعي أيضا يحتاج إلى التعاون بين مختلف العاملين. لهذه القيم ستة متطلبات تتضمن: التعاون في وضع الأهداف؛ وتقدير خبرات الآخرين وأفكارهم؛ والاستعداد للتعلم منهم؛ واحترام جدول عمل الفريق، قبل جدول الأعمال الشخصي؛ والالتزام بقرار الفريق، حتى في حال الاختلاف الشخصي مع هذا القرار؛ والشراكة في المسؤولية عن نتائج عمل الفريق سواء حققت النجاح المنشود أو تعثرت في ذلك.
وهناك أخيرا قيم "الحماية والأمن" وقيم "النشاطات الخارجية" المذكورة في تفاصيل لائحة منظمة العمل الدولية. تهتم الأولى بحماية الإنسان وتوفير البيئة الآمنة من حوله، إلى جانب رعايته كأساس للأداء الفعال؛ إضافة إلى حماية الموارد من إمكانات ووسائل ومعلومات. أما الثانية، فتركز على تعزيز قيم "النزاهة" في مجالها، مثل رفض أي معطيات خارجية مشبوهة للعاملين في المنظمة مثل الهدايا والتكريم وغير ذلك.
بعد العرض السابق، يبرز تساؤل مهم حول "الضوابط" المطلوبة للالتزام "بالقيم المطروحة". تتمتع هذه الضوابط بثلاثة أوجه: أولها وجه "ذاتي" مبني على الشعور الشخصي بالمسؤولية تجاه العمل والمنظمة التي ينتمي إليها؛ وثانيها وجه "تشريعي" يعتمد على وضع قوانين تشمل مكافأة الملتزمين بأساليب مختلفة، وتتضمن ردع المخالفين بعقوبات مناسبة؛ وثالثها وجه "تقني" يراقب ما يجري ويسجل ما هو لافت، ليحيله إلى التشريعي الذي يفعل تطبيق قوانينه في الحالات التي تحتاج إلى ذلك.
الحل المأمول للمسؤولية في العمل هو "الضوابط الذاتية" النابعة من الشعور "بالمسؤولية الشخصية"، فهي إن وجدت استغنت عن الضوابط التشريعية، وعن الضوابط التقنية. لكن الأمر ليس بالأمل دائما، فالضوابط الذاتية ليست دائما متوافرة بالشكل المطلوب، ولا بد من تعزيزها بضوابط تشريعية وضوابط تقنية. ولعلنا نستطيع عبر تطوير روح "المسؤولية" في كل من بيئة التنشئة وبيئة العمل الارتقاء بالضوابط الذاتية إلى مستوى متقدم، يحد من الاعتماد على الضوابط التشريعية والتقنية التي كثيرا ما تحبط أصحاب الضابط الذاتي المتطلع إلى مجتمع أمثل.
وهناك في الختام تساؤل مهم آخر حول لوائح مؤسساتنا في مجال متطلبات "المسؤولية في العمل". هذا ما سنعود إليه في مقال قادم بمشيئة الله، على ضوء "الدليل الاسترشادي لقواعد أخلاقيات العمل في المملكة" الذي أصدرته وزارة العمل عام 2017.