الدولار يهيمن بالديون «2 من 3»

أدت زيادة الانفتاح المالي والانكشاف على تقلب التدفقات الرأسمالية إلى زيادة طلب الهيئات الرسمية على أصول مالية آمنة - أي الاستثمارات التي تحمي على الأقل الأصل وتتسم بسيولة نسبية "أي يسهل تداولها". ويوجد لدى اقتصادات الأسواق الصاعدة حافز أقوى من أي وقت مضى لمراكمة مقادير ضخمة من احتياطيات النقد الأجنبي الوقاية نفسها من عواقب تقلب التدفقات الرأسمالية. وفي الواقع، قامت الأسواق الصاعدة منذ عام 2000 بزيادة مخزونات الاحتياطي لديها بنحو 6.5 تريليون دولار، ويعزى نصف هذه الزيادة إلى الصين.
إضافة إلى ذلك، ظل عديد من هذه الدول، وكذلك بعض الاقتصادات المتقدمة مثل اليابان وسويسرا، يتدخل بصورة مكثفة في أسواق النقد الأجنبي - بشراء عملات أجنبية للحد من ارتفاع قيم عملات دولها، وبالتالي حماية قدرة صادراتها على المنافسة. ويسفر أيضا التدخل في أسواق النقد الأجنبي عن تراكم الاحتياطيات، التي ينبغي وضعها في أصول آمنة وسائلة، تكون بوجه عام سندات حكومية. وأدى هذا النوع من التدخل إلى زيادة الطلب على الأصول الآمنة.
وتزيد من هذا الطلب الإصلاحات التنظيمية التي تلزم المؤسسات المالية بالاحتفاظ بأصول آمنة وسائلة، كمصدات واقية من أي صدمات مالية معاكسة. علاوة على ذلك، ففي أوقات الاضطراب المالي العالمي، يسعى المستثمرون من القطاع الخاص على مستوى العالم أيضا سعيا حثيثا إلى الحصول على تلك الأصول.
وقد أدى ذلك إلى حالة من الاختلال، إذ تراجع المعروض من الأصول الآمنة، حتى مع تزايد الطلب عليها. ووجهت الأزمة ضربة، فالمفهوم أن السندات الصادرة عن القطاع الخاص، حتى التي تصدرها شركات ومؤسسات مالية شديدة الرسوخ، يمكن أن تعد أصولا آمنة. في الوقت نفسه، تبدو السندات الحكومية لعدد كبير من الاقتصادات الكبرى - مثل السندات في منطقة اليورو واليابان والمملكة المتحدة - أكثر اهتزازا في أعقاب الأزمة مع محاولة تلك الاقتصادات التصدي لمسألة ضعف النمو والارتفاع الحاد في أعباء الديون. وهكذا قامت الحكومة الأمريكية، بما لديها من أسواق مالية عميقة ورغم ارتفاع دينها العام، بتعزيز وضعها باعتبارها المصدر العالمي الأول للأصول الآمنة.
هل من المنطقي أن تقوم دول أخرى بشراء المزيد والمزيد من الدين العام الأمريكي واعتباره أمانا عندما يتضخم ذلك الدين بسرعة ويمكن أن يهدد ملاءة المالية العامة الأمريكية؟ ومع ارتفاع نسبة الملكية الأجنبية يكون من المغري للولايات المتحدة أن تخفض التزامات الدين عليها ببساطة بطبع مزيد من الدولارات، وهو ما من شأنه أن يخفض القيمة الحقيقية لذلك الدين "أي بعد التضخم" - وعدم الوفاء ضمنيا بجزء من التزاماتها تجاه هؤلاء المستثمرين الأجانب. بالطبع، فإن ذلك الإجراء، وإن كان مغريا، غير جذاب في نهاية المطاف، لأنه إن نفذ سيذكي التضخم ويؤثر في المستثمرين الأمريكيين والاقتصاد الأمريكي أيضا.
في الحقيقة، يوجد توازن سياسي محلي دقيق يجعل من المنطقي للمستثمرين الأجانب الاحتفاظ بإيمانهم أن الولايات المتحدة لن تضخم من قيمة حيازاتها من دين الخزانة. وداخل الولايات المتحدة، يشمل حائزو الدين الأمريكي المتقاعدين وصناديق المعاشات التقاعدية والمؤسسات المالية وشركات التأمين. وتشكل هذه الفئات كتلة انتخابية سياسية قوية ستفرض تكلفة سياسية هائلة على الحكومة الحالية إذا ارتفع معدل التضخم بصورة حادة. وهذا يعطي بعض الطمأنينة للمستثمرين الأجانب بأن قيمة استثماراتهم الأمريكية ستكون في أمان.
مع ذلك، تشعر دول الأسواق الصاعدة بالإحباط، حيث لا تجد غير الأصول الدولارية لتضع فيها معظم احتياطياتها، خصوصا مع استمرار انخفاض أسعار الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية لفترة ممتدة، على نحو يتواكب بالكاد مع التضخم. ويزيد من هذا الإحباط التوقعات المقلقة بشأن الاحتمال المرجح لانخفاض قيمة الدولار على المدى البعيد، على الرغم من قوته كعملة الاحتياطي المهيمنة. ويتوقع أن تواصل الصين وغيرها من الأسواق الصاعدة الرئيسة تسجيل معدلات نمو في الإنتاجية أعلى من معدلاتها في الولايات المتحدة، ولذلك فبمجرد استقرار الأسواق المالية العالمية، يرجح أن يعود الدولار إلى الانخفاض التدريجي الذي يشهده منذ أوائل الألفينيات. وبعبارة أخرى، يتوقع المستثمرون الأجانب الحصول على عائد أقل بعملاتهم المحلية عند قيامهم في نهاية المطاف ببيع استثماراتهم الدولارية. لذلك، يبدو المستثمرون الأجانب على استعداد لدفع سعر أعلى - الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية ذات العائد المنخفض بدلا من الاستثمار في أصول ذات عائد أعلى - للاحتفاظ بهذه الأصول التي تعد في ظروف أخرى آمنة وسائلة... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي