الدولار يهيمن بالديون «3 من 3»
هناك منافع ملموسة وغير ملموسة تعود على البلد الذي تستخدم عملته كعملة احتياطي. فإضافة إلى المكانة السامقة التي تنشأ عن هذا الوضع، تتوافر للبلد إمكانية الحصول على تمويل منخفض التكلفة بالعملة المحلية للبلد وتتحقق له منافع العائد من رسم سك العملة -الفرق بين القوة الشرائية للنقود وتكلفة إنتاجها- التي يمكن استخلاصها من كل من الحائزين المحليين والأجانب للعملة.
وفيما يتعلق بالاقتصادات المتقدمة الكبرى الأخرى، فإنها إما تملك أسواقا مالية أصغر بكثير، أو كما في حالة أوروبا واليابان، تتسم آفاق نموها في الأجل الطويل بالضعف نسبيا ولديها بالفعل مستويات مرتفعة من الدين العام. ونتيجة لذلك، لا يرجح أن تعود عملاتها إلى سابق مجدها قريبا. لكن نظرا للمنافع التي تحققت للدولار من وضعه كعملة للاحتياطي، ينبغي من حيث المبدأ أن يكون هناك منافسون جدد يسعون إلى تأمين حصة من تلك المنافع.
ويمثل اليوان الصيني أحد المنافسين المفترضين للدولار، وقد كانت هذه المسألة محل اهتمام كبير. فاقتصاد الصين هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم وهو بسبيل أن يصبح أكبر اقتصاد في العالم في العقد المقبل وتتخذ الحكومة الصينية حاليا خطوات كثيرة لتشجيع استخدام اليوان في المعاملات المالية والتجارية الدولية. وتحرز هذه الخطوات تقدما سريعا بالنظر إلى مجرد حجم الاقتصاد وجسارته في التجارة الدولية. ومع زوال القيود على حركة رأس المال عبر الحدود وإمكانية تحويل العملة بحرية، سيصبح اليوان أيضا عملة احتياطية تتوافر لها مقومات النجاح.
إلا أن محدودية تطور الأسواق المالية وهيكل المؤسسات السياسية والقانونية في الصين يجعل من غير المرجح أن يصبح اليوان أحد أصول الاحتياطي الرئيسة التي يلجأ إليها المستثمرون الأجانب، بما في ذلك البنوك المركزية الأخرى، للحفاظ على أموالهم في أمان. وفي أحسن تقدير، سينتقص اليوان من الوضع المتفوق للدولار لكنه لن يمثل تحديا كبيرا له. وليس هناك اقتصادات أخرى من اقتصادات الأسواق الصاعدة في وضع يسمح بصعود عملاتها إلى وضع الاحتياطي، ناهيك عن تحدي الدولار.
وبالطبع، لا تعني هيمنة الدولار كمستودع للقيمة بالضرورة استمرار هيمنته في جوانب أخرى. بل يرجح بمرور الوقت أن يتراجع دوره كوسيط للتبادل ووحدة حسابات. وفي الوقت الحالي، تتراجع الحاجة إلى الدولار نتيجة تطور الأسواق المالية والتطورات التكنولوجية التي تجعل من الأيسر إجراء المعاملات المالية عبر الحدود باستخدام عملات أخرى. وقد وقعت الصين اتفاقات ثنائية مع عدد من شركائها التجاريين الرئيسين لتسوية المعاملات التجارية بعملاتهم هم. وبالمثل، لا يوجد سبب وجيه يحتم استمرار تقويم وتسوية عقود بعض السلع الأولية مثل النفط بالدولار فقط.
وفي المقابل، نظرا لأن الأصول المالية المقومة بالدولار الأمريكي، خصوصا سندات الحكومة الأمريكية، لا تزال هي الوجهة المفضلة للمستثمرين المهتمين بتأمين استثماراتهم، يظل مركز الدولار بوصفه مستودع القيمة الرئيس في العالم آمنا في المستقبل المنظور.
أصبح المستثمرون في مختلف بلدان العالم من الهيئات الرسمية والخاصة معتمدين على الأصول المالية المقومة بالدولار الأمريكي حيث لا توجد بدائل تعرض النطاق والعمق الذي تعرضه الأسواق المالية الأمريكية. ولا تزال سندات الخزانة الأمريكية، التي تمثل اقتراض الحكومة الأمريكية، تعد الأصول المالية الأكثر أمانا في الأسواق العالمية. ومع قيام المستثمرين الأجانب، بمن فيهم البنوك المركزية الأجنبية، بمراكمة استثمارات ضخمة في هذه السندات وغيرها من الأصول الدولارية، يكون لديها حافز قوي للحيلولة دون انهيار قيمة الدولار. وعلاوة على ذلك، لا توجد عملات أو استثمارات بديلة توفر درجة مماثلة من الأمان والسيولة بالكميات التي يطلبها المستثمرون. وهنا يكمن الخروج من "مصيدة الدولار".
ولا يعزى ظهور الولايات المتحدة بهذا الوضع الخاص في التمويل العالمي إلى حجم اقتصادها فحسب، وإنما يعزى أيضا إلى مؤسساتها -الحكومة الديمقراطية، والمؤسسات العامة والأسواق المالية، والإطار القانوني- التي لا تزال على عيوبها تضع المعيار للعالم. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من الاستخدام الجريء والمطول لسياسات نقدية غير تقليدية من جانب الاحتياطي الفيدرالي، لا يزال المستثمرون في جميع بلدان العالم يثقون فيما يبدو بأن الاحتياطي الفيدرالي لن يسمح بخروج التضخم عن السيطرة وخفض قيمة الدولار.
وفي نهاية المطاف، سيتطلب الخروج من مصيدة الدولار تنفيذ إصلاحات مالية ومؤسسية كبيرة في الدول التي تتطلع إلى أن تنتقص عملاتها من هيمنة الدولار. وسيكون من اللازم تنفيذ إصلاحات رئيسة في الحوكمة العالمية للحد من الطلب الرسمي على الأصول الآمنة بتوفير شبكات أمان مالي أفضل للدول. ومن شأن هذه الإصلاحات أن تقضي على الحاجة إلى مراكمة احتياطيات للنقد الأجنبي كنوع من التأمين الذاتي من أزمات العملات والأزمات المالية.
وسيظل الدولار عملة الاحتياطي المهيمنة لفترة طويلة، لسبب رئيس هو الافتقار إلى بدائل أفضل.