الفرص تولد من رحم الأزمات
عبارة أشبعت نظريا بالكلام والكتابة، وقلما ترجمت عمليا على أرض الواقع، وهناك من يراها عبارة وجدت فقط للاستهلاك، وتهدئة الأنفس الجزعة في مواجهة الأمواج الهادرة للأزمات وهي تجتاح الجميع دون شفقة، وهو تقريبا رأي أغلب البشر، إلا أنها في ذهن ذوي الجرأة والعزيمة، الفرصة التي طالما انتظروها، وتكمن هنا في قلة عدد من تسكنه هذه الشكيمة شديدة البأس، يكمن الثمن بعيد المنال، للفرص النادرة التي لا يراها كثيرون، ولو كانت غير ذلك ما غلبت الروم، ولا جزع أحد من أي أزمة كانت، إنما هي أرزاق الخالق الوهاب يهبها لمن شاء، ويمنع عنها من شاء.
ليس من السهولة بمكان على أي بشر مهما أوتي من العلم والخبرة، أن يقدم وصفة متكاملة لاقتناص أي من الفرص التي ستولد في أثناء الأزمات وبعدها؛ بل إن الوصف الأكثر دقة لهذه المهمة؛ أن تصفها بالمهمة شبه المستحيلة، التي يقتضي النجاح في الوصول إلى أقرب وصفة ناجحة لها بصيرة حادة، واطلاع واسع جدا على تجارب سابقة ومعاصرة، وبيانات ومعلومات شاملة، ومخزون هائل جدا من الأفكار والرؤى والطموح والجرأة. هل تعني كل هذه المتطلبات وغيرها مما لم يتم ذكره، أنها الأمر المستحيل بعينه؟ بالطبع لا، وإلا كيف تحولت فرص البشر العظيمة السابقة إلى منجزات عملاقة لاحقا؟ إنما يأتي هذا التمهيد البسيط لتأكيد أهمية التفريق الكبير، بين الإقدام على اقتناص فرص لا تراها إلا أعين قليلة جدا، وبين ما قد يتجاوز حدود إلقاء الأيدي إلى الهلاك المبين.
الجميع يدرك حجم المصاعب والآثار الوخيمة التي تتزامن مع وقوع الأزمات، حتى خلال ما يليها من فترات قد تكون أكثر قسوة، بدءا من الأفراد الذين قد يفقدون وظائفهم ومصدر دخلهم، ويزداد وقع الألم إن كانوا يتحملون أعباء ديون ومصروفات معيشية مرتفعة، مرورا بأرباب منشآت الأعمال، تحديدا المتوسطة والصغيرة، التي قد تصل بهم آثار الأزمة إلى سقوط منشآتهم في حفرة الإفلاس، وتحولهم فجأة من أرباب أعمال إلى ملاحقين ماليا لسداد ديون منشآتهم، عدا تسبب كل ذلك في فقدان العمالة لديهم وظائفهم ومصدر معيشتهم، وليست المنشآت الأكبر حجما ببعيدة عن سيناريو المنشآت الأصغر منها، وإن لم تلق المصير السابق نفسه، فإنها بالتأكيد ستواجه صعوبات كأداء؛ قد تضطرها إلى تقليص تكاليفها التشغيلية بالتخلي عن شريحة واسعة من عمالتها، وخفض أجور العمالة المتبقية لديها، وكلاهما ستكون له آثاره السلبية في الجميع، وكيف أن الأعباء المتزايدة لامتصاص تلك الآثار والتداعيات المختلفة ستقع على كاهل الحكومة؛ لتقوم من خلال أجهزتها العديدة باتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لتجاوز تلك التطورات بأقل قدر ممكن من الخسائر، مقترنة بكل تأكيد بارتفاع التكلفة وزيادة النفقات العامة، وضرورة العمل المستمر وبذل الجهود الكافية للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
تبدأ رؤية الفرص المحتملة وسط هذه الأمواج العاتية للأزمة، من أروقة الأجهزة الحكومية التنفيذية، التي لا يقف دورها عند مجرد القيام بدور المسعف والمنقذ للضحايا؛ بل يتجاوزه إلى سرعة المبادرة بتسهيل بيئة الأعمال، وتحمل القدر الأكبر من المخاطرة، وتشجيع كيانات الأعمال على الدخول فيها، وللنجاح في هذا الاتجاه، تقع على كاهلها مهمتان رئيستان: الأولى: قيام الأجهزة الحكومية المعنية بتذليل أي معوقات تنظيمية، والعمل فورا على إزالتها؛ إن وجدت، وفي الوقت ذاته وضع الإجراءات اللازمة لتحقيقها، وضخ السيولة الكافية بالمشاركة مع القطاع الخاص، سواء على مستوى المشاريع القائمة والتركيز بدرجة أكبر على المنشآت المتوسطة والصغيرة، وعدم إغفال المحافظة على المنشآت الأكبر منها، خاصة تلك التي تضطلع بأدوار مهمة جدا على مستوى التوطين والمساهمة في النمو الاقتصادي. أو على مستوى تأسيس المشاريع الجديدة اللازمة، التي تأكدت حاجة الاقتصاد الوطني إليها خلال الفترة الراهنة، وأعني بها تلك المجالات التي طالما عانى المستثمرون المحتملون فيها كثيرا من المعوقات التنظيمية، ونقصا في رؤوس الأموال اللازمة والتمويل الكافي.
المهمة الثانية: القيام بإعادة رسم وتصميم كامل البرامج والسياسات الاقتصادية الكلية، من خلال منظومة عمل تمثل الأجهزة الحكومية كافة وكبريات منشآت القطاع الخاص، ولا تنس هنا المنشآت الأصغر منها. ستقع على كاهل هذه المنظومة للعمل المشترك مهام عديدة وواسعة؛ لعل من أهم ما يجب ذكره هنا حول تلك المهام، أن تعكف على مراجعة جميع أوجه القصور السابقة.
ومن أكبر أوجه القصور خلال الأزمة الراهنة، النقص الحاد لتوطين كثير من الوظائف المهمة، وارتفاع المديونيات المصرفية على كاهل كثير من الأفراد العاملين من المواطنين، وينصب وجه الانتقاد هنا على تجاوز تلك الديون جزءا كبيرا من قدرة الدخل للأفراد المقترضين، سواء على مستوى حجم الديون أو مستوى نسب الاستقطاع العالية، في الوقت ذاته الذي لا ينكر أهمية توفير التمويل اللازم لتلبية احتياجات الأفراد استهلاكيا أو عقاريا، إنما وفق ضوابط رشيدة تنأى بهم عن التورط في شدائد الحياة أوقات الاستقرار قبل أوقات الأزمات.
في ضوء ما تقدم؛ تحديدا في ضوء ما ستسفر عنه جهود ومبادرات الأجهزة الحكومية المعنية، بعد مراجعتها وإعادتها لتصميم ورسم السياسات والبرامج الكلية، ووضعها في الموضع الذي يلبي الحاجة الفعلية للاقتصاد الوطني والمجتمع، والقضاء على أوجه القصور والتشوهات السابقة، والاسترشاد بالدروس التي تركتها الأزمة الراهنة، يمكن التأكيد أن الفرص المنتظرة تتولد بقدر أكبر وأوسع مما كان مقدرا لها، ويدا بيد "حكومة، قطاعا خاصا، مجتمعا" سينجح الجميع - بمشيئة الله تعالى - في اقتناصها واستثمارها، وسيعود كل ذلك بالنفع على الجميع، وتخرج بلادنا أقوى وأسرع تطورا ونموا من ذي قبل، والتأكيد في ختام هذا المقال أن موعد انتهاز هذه الفرص، قد أصبح قائما منذ اندلعت الأزمة الراهنة وكشفت عن آثارها المؤلمة حتى تاريخه، وليس علينا إلا اقتناصها قبل فوات الأوان، وألا نسمح بعد اليوم ببقاء الأسباب وأوجه القصور التي سمحت بأخذها حجما أكبر مما كانت تستحقه، مقارنة بحال لو لم تكن موجودة من الأصل.