مواجهة فيروس كورونا .. بين مدرستين مختلفتين
بعد مرور نحو ستة أشهر على جائحة فيروس كورونا، تتنازع قضية مقاومة الفيروس مدرستان، المدرسة الأولى تقودها منظمة الصحة العالمية، وترفع شعار "خليك في البيت"، الزموا بيوتكم وعدم الخروج إلى الشارع والالتحام بالتجمعات البشرية في كل مكان حتى لو كانت الأمكنة هي المساجد، والكنائس، والمطارات، والمصانع، والملاعب، والمولات بأشكالها وألوانها كافة، ومبرر هذه المدرسة أن الفيروس سريع الانتشار، وهو يبدأ بارتفاع في درجة الحرارة، وينتهي ــ لا قدر الله ــ بالوفاة، وسجلت فعلا بيانات منظمة الصحة العالمية عددا كبيرا من ضحايا الفيروس المحير.
أما المدرسة الثانية، فهي مدرسة الرأسمالية الغربية التي تقول إن عجلة الاقتصاد والحركة في البلاد يجب ألا تتوقف، وأن تستمر جنبا إلى جنب مع تنفيذ التعليمات المؤدية إلى عدم انتشار العدوى بين الناس، وبالتالي انتشار الفيروس في كل الأنحاء.
وترفع هذه المدرسة شعار أن كورونا يقتل بعض الأشخاص، ولكن البقاء في البيت وإيقاف عجلة الاقتصاد سيقتل كل أركان الدولة.
وبالنسبة للمملكة، فقد كانت قراءة الحكومة السعودية للفيروس منذ البداية قراءة جيدة وموفقة وبحكمة، حفاظا على صحة الإنسان وأيضا حماية للاقتصاد الوطني، واتخذت الدولة التدابير الاحترازية اللازمة التي مكنتها من السيطرة على الفيروس، وفي الوقت نفسه أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حزمة من الأوامر الملكية تقضي بتعليق الدراسة في المدارس والجامعات، كذلك تعليق حركة الطيران، وأخيرا وليس آخرا اعتمدت حكومتنا ميزانية خاصة لدعم القطاع الخاص لمواجهة نتائج جائحة كورونا وضمانا لسير واستمرار الحياة الاقتصادية اليومية.
ونلاحظ أن الولايات المتحدة ــ في بداية وصول الفيروس إلى أراضيها ــ استهترت بالفيروس واعتبرته كما فيروس الإنفلونزا، وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الاستمرار في العمل، والمضي قدما في ممارسة الحياة الطبيعية في كل مؤسسات ومصانع الدولة.
ولكن النتيجة أن الفيروس فاجأ سكان الولايات المتحدة، وانتشر وتغلغل في كل الولايات، واستباح الشعب الأمريكي، وأعلن بعض محافظي الولايات سقوطها في وحل فيروس كورونا، واستنجدوا المساعدة من الولايات الأخرى، وطلبوا النجدة العاجلة من رئاسة الولايات المتحدة.
وأمام هذه الجائحة أو الفاجعة فقد انقسمت الولايات إلى قسمين، حيث إن بعض الولايات بدأت تجاهر بمخالفة قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وترفض تنفيذ تعليماته وتقفل المؤسسات وتفرض منع التجول، بينما ولايات أخرى ظلت تؤيد وتطبق مبدأ استمرار الحياة الاقتصادية بشكل طبيعي حتى لا تسقط الولاية في براثن الركود الاقتصادي أو الكساد الذي يدمر الولاية وليس مجموعة أفراد فقط!
ولعل أبرز المعارضين للرئيس ترمب هو بل دي بلاسيو، عمدة ولاية نيويورك الذي ناشد الولايات الأخرى أن تساعد ولاية نيويورك في محنتها وتزودها من فائض الأطباء والممرضين والفنيين لمواجهة الجائحة.
وإذا كان الحال في الولايات المتحدة قد شهد انقساما بين الولايات، فإن الحال في دول الاتحاد الأوروبي قد تعرض للانقسام نفسه، حيث طبقت بعض دول أوروبا مبادئ مدرسة منظمة الصحة العالمية، وفرضت منع التجول وعطلت كل الأعمال في الدولة، بينما بعض الدول الأوروبية ظلت تطبق مبادئ الرأسمالية الغربية وتشجع كل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص على استمرار الحياة الطبيعية مع الاهتمام بتنفيذ وسائل الحماية والتعقيم. وفي غمار هذه المعركة الضارية بين المدرستين مدرسة "خليك في البيت" ومدرسة "مارس حياتك الاقتصادية الطبيعية" فقد قاومت الرأسمالية العنيفة تعطيل الاقتصاد، واستخدمت الرئيس الأمريكي ترمب ويمينه لترديد شعارات تخدر الشعب الأمريكي مفادها أن الإدارة الأمريكية بصدد الوصول إلى عقاقير طبية وبروتوكولات علاجية قادرة على القضاء على الفيروس "كوفيد ــ 19".
وإزاء هذا الوعد الذي ما زال وعدا وهميا تركت أبواب المصانع والمولات والمطارات والمصالح الاقتصادية والمالية والتجارية تمارس نشاطها.
ولكن الوضع الصحي العام في الولايات المتحدة ساء إلى حد كبير، وأثر تأثيرا مباشرا في مجمل الأوضاع الاقتصادية، في وقت عجزت فيه منظومات الرعاية الصحية عن مواجهة عشرات الآلاف من المصابين، وتراجعت البورصات، وطالت خسائرها الشركات الكبرى، ما اضطر الرئيس الأمريكي إلى اتخاذ تدابير اقتصادية عاجلة ظاهرها حماية الأسواق وتحصين مدخرات الأمريكيين، وتقديم إعانات البطالة للعاطلين عن العمل، ومساعدة المتضررين من تداعيات كورونا، بينما باطنها هو الحد من خسائر الأغنياء والشركات الكبيرة، ومحاولة تعويضهم عما خسروا من أموال وممتلكات. والواقع أن أصداء المدرستين.. مدرسة منظمة الصحة العالمية، والرأسمالية الغربية نقرأها في كل دول العالم، فمثلا سنغافورة وإندونيسيا والهند ومصر من الدول التي تأثرت بنظرية الرأسمالية الغربية، ورجحت استمرار الحياة الاقتصادية مع الحرص على تطبيق وسائل الوقاية، وفرضت على جميع المؤسسات ــ بالقوة العسكرية ــ تعليق التعليمات الصحية على أبواب المؤسسات الحكومية ومؤسسات الأعمال، واشترطت على كل شخص يريد أن يدخل مبنى المؤسسة أن يقوم بالتعقيم والتطهير، وأن يلبس القفاز والماسك وكل وسائل الحماية ليساعد على منع انتقال العدوى.
والآن على كل دول العالم أن تستعد لمواجهة مرحلة ما بعد كورونا، وهي مرحلة عصيبة تحتاج من كل الدول إلى أن تستعد للجلوس على مائدة الحوار، وتبحث بجدية عن السبل التي تنشل الاقتصاد الدولي من براثن الركود قبل أن يأخذنا إلى الأصعب وهي مرحلة الكساد، لا قدر الله.