التحول الرقمي يعالج الاقتصاد العالمي بعد كورونا
نلاحظ في هذه الأيام انتشار موجات من اليأس في أوساط كثير من الاقتصاديين حينما يتحدثون عن الآثار السلبية، التي أحدثها وباء كورونا في الاقتصاد العالمي، ويميلون إلى أن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي أضرار لا يمكن علاجها في الأمد القصير، لأن الاقتصاد العالمي سيظل أسيرا للتخريب العميق الذي أحدثه هذا الوباء.
ومع أننا لا نقلل من تلك الأضرار التي تعرض لها الاقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا، إلا أن الاقتصاد العالمي سبق أن مر بأزمات مدمرة أشنعها الكساد الكبير، الذي بدأ في عام 1948 عقب الحرب العالمية الثانية من أجل تعمير أوروبا، ولكن الاقتصاد العالمي خرج من هذه الأزمة بنجاح منقطع النظير.
وإذا كان الاقتصاد العالمي قد خرج من أزمة الكساد الكبير بمشروع مارشال فقط، فإن الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن لديه من الأدوات والإمكانات ما يجعله مؤهلا لعلاج كل النتائج السلبية، التي أحدثتها جائحة كورونا في وقت قصير وبجودة عالية وتكاليف أقل.
وأزعم أن أدوات حل المشكلات في الوقت الراهن أقوى وأجود وأسرع من قانون مارشال، حيث توجد مؤسسات مالية ونقدية دولية وغير دولية ضخمة تساعد على حل الأزمات الاقتصادية، وتقف مع الدول بالتوجيه والدعمين الأدبي والمالي، كذلك يستطيع العصر الاصطناعي، وثورة المعلومات، والاكتشافات المذهلة لموارد الطاقة، وبالذات الطاقة الشمسية التي بات لها دور كبير في مرحلة ما بعد كورونا على طريق تنقية بيئة كوكب الأرض مما علق به من توسيخ وتلويث، وأهم من هذا وذاك هو ما تحقق من إنجازات لكثير من الدول في مجالات التحول الرقمي.
كل هذا سيسهم مساهمة فعالة في إيجاد الحلول الرقمية السريعة والعاجلة لكثير من المشكلات، التي تسببت فيها ظاهرة الركود التي بدأت تعانيها الأسواق العالمية بعد جائحة كورونا.
والآن الذي يشغل بال كل دول العالم هو كيف يخرج النظام الاقتصادي العالمي من هذه الأزمة غير المسبوقة بأقل الخسائر الممكنة؟
إذا كان التعاون الدولي مطلوبا في الماضي، فإن دول العالم ــ بعد جائحة كورونا ــ أحوج ما تكون إلى التعاون العميق حتى تخرج من نفق أزمة لا قبل للعالم بها، العالم يحتاج إلى التفكير المتعمق حول وجهة هذه الأزمة، وكيف يمكننا التخلص من ندوبها وآثارها المدمرة، وكيف ننتقل ــ مرة أخرى ــ إلى مرافئ الخير والرخاء والتنمية الشاملة.
ربما يكون من الملائم هنا أن نطالب جميع الدول بتطبيق نظرية القطيع التي طرحها رئيس بوريس جونسون وزراء بريطانيا، ثم تراجع عنها بعد أن افترس فيروس كورونا جميع أقاليم بريطانيا العظمى وفي مقدمتهم رئيس الوزراء نفسه، ونظرية القطيع تطلق على سلوك تلقائي عام يتواءم مع سلوك الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وهنا فإن المطلوب من كل دول العالم أن تتجه نحو إعادة بناء الاقتصاد الدولي، وعلى الجميع أن يرفع شعار المصير واحد، والكل في قارب واحد، أي أن الكل سيغرق إذا لم يسلك سلوك الجماعة، ولا داعي للبكاء على اللبن المسكوب.
من ناحية أخرى فإن صندوق النقد الدولي تحرك على غير عادته، وقال: إن جائحة كورونا ألحقت أضرارا بالغة بكل الدول، إلا أن هناك دولا عظمى ذات اقتصاد ضخم تضرر اقتصادها بأضرار كبيرة، بينما هناك دول نامية يتسم اقتصادها بالبساطة لم تصب اقتصاداتها بالحجم نفسه من الأضرار، ولفت صندوق النقد الدولي النظر إلى أن بإمكان "الصندوق" المشاركة في الاقتصادات الصاعدة بالإقراض بما فيها الأدوات ذات الطابع الوقائي، أما بالنسبة للدول الفقيرة فإنها بحاجة إلى تمويل بشروط ميسرة، مع الحرص على عدم بلوغ هذه الدول مرحلة الإفلاس، لأن إفلاس الدول من الأمور الضارة جدا بالاقتصاد العالمي، بصرف النظر عن حجم الدولة المفلسة.
وينبغي ألا يفوتنا حجم التحديات التي تستوجب استجابة جماعية عاجلة وفورية مثل إعادة تحفيز التجارة لتكون محرك النمو الأول، وكذلك الاهتمام بما يسمى الاقتصاد الأخضر ووضع خطط الأمن الغذائي، ولا بد من العمل على تعزيز مبادرات التعافي من أجل التوثب باتجاه تشجيع انسياب التجارة العالمية والتخفيف من الحواجز الجمركية، وفتح الأسواق، وخفض الرسوم إلى أدنى درجة ممكنة، ولعله من المناسب أن نطالب منظمة التجارة العالمية بالتحرك لتنشيط اتفاقيات التجارة الدولية، التي تكلست وتوقفت في العقدين الأخيرين وتسببت في العودة إلى مرحلة ما قبل إلغاء الحواجز الجمركية.
أؤكد مرة أخرى، أن إعادة الحياة والنشاط إلى منظمة التجارة العالمية ضروري للغاية في مرحلة ما بعد كورونا.
وأخيرا، لا ينبغي لنا ــ في عالم ما بعد كورونا ــ أن ننظر إلى التضامن الاجتماعي الدولي بعدّه أمرا مسلما به، بل لا بد من دعم جهود الدول في ضبط سياساتها الاجتماعية لدعم مبادئ حقوق الإنسان، وتعميق مبدأ المساواة بين البشر، وحماية محدودي الدخل من الفقر، وتشجيع سياسات تكافؤ الفرص إنها لحظة اختبار لإنسانيتنا.