يسرقون ويغسلون الأموال القذرة
تتجه دول الخليج العربي في هذه الأيام إلى شن غارات مكثفة على بؤرة غسل الأموال القذرة، وكانت المملكة وما زالت في مقدمة الدول المحاربة لعمليات غسل الأموال وتبييضها، وتستمد الحكومة السعودية موقفها الصارم ضد غسل الأموال من خلال مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء، ومن خلال القوانين الدولية التي تجرم أي نوع من أنواع غسل الأموال أو تبييضها، كذلك فإن القانون السعودي يعد عمليات غسل الأموال من الجرائم الاقتصادية التي يعاقب عليها القانون، لأن غسل الأموال هو البديل المشوه للاقتصاد المسمى بالاقتصاد الخفي أو اقتصاد الظل، وهو اقتصاد ضار جدا ــ كما سنوضح ــ بالاقتصاد الوطني. والواقع أن المملكة أصدرت ــ منذ وقت مبكر ــ نظاما لمكافحة غسل الأموال، حيث توج النظام بمرسوم ملكي بتاريخ 25 جمادى الآخرة 1424هـ بالمصادقة على اعتماد وتنفيذ نظام مكافحة غسل الأموال، وينص النظام في مادته الأولى على أن غسل الأموال هو ارتكاب أي فعل أو الشروع فيه يقصد من ورائه إخفاء أو تمويه أصل حقيقة أموال مكتسبة خلافا للشرع أو النظام وجعلها تبدو وكأنها مشروعة المصدر.
وإمعانا من الحكومة السعودية الرشيدة في الاهتمام بمحاربة غسل الأموال، فقد شكلت لجنة دائمة لمكافحة كل أشكال عمليات غسل الأموال أو تبييضها، وتتكون اللجنة من مندوبين من وزارات: الداخلية، الخارجية، المالية، التجارة والصناعة، الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وكذلك تتشكل اللجنة الدائمة لمكافحة غسل الأموال من مندوبين من مؤسسة النقد العربي السعودي، والاستخبارات العامة، ومصلحة الجمارك، وهيئة التحقيق والادعاء العام، وهيئة السوق المالية.
ومن مهام اللجنة دراسة جميع الموضوعات المتعلقة بمكافحة غسل الأموال في المملكة، وتعقد اللجنة اجتماعات دورية بصورة منتظمة، وإذا جد جديد يستحق عقد اجتماع استثنائي وعاجل، فتتم الدعوة إلى عقده بناء على دعوة من رئيس اللجنة أو نائبه.
ويتبلور التعريف العام لغسل الأموال من خلال كسب الأموال من مصادر غير مشروعة، وإعادة تدوير الأموال الناتجة عن الأعمال غير المشروعة في مجالات وقنوات استثمارية شرعية من أجل إخفاء المصدر الحقيقي لهذه الأموال، بمعنى أن مفهوم غسل الأموال هو استخدام الحيل والأساليب الملتوية لاكتساب الأموال بطرق غير مشروعة، كالأموال المكتسبة من الرشوة، والدعارة، والمخدرات، والاختلاسات، والغش التجاري، وتزوير النقود والمسكوكات، والاتجار بالآثار، والجاسوسية، وما إلى ذلك من الكسب الحرام غير المشروع.
لقد ظهرت ظواهر غسل الأموال في جميع الأنشطة الاقتصادية، وأخذت أشكالا متعددة وأساليب متنوعة من التزييف، والاختلاس، والسرقة، والمتاجرة بالبغاء، والرشا، فكثرت الأرصدة المشبوهة والأرقام الخيالية المدمرة لأرقام الاقتصاد الكلي الحقيقي.
وفي ظل انتشار ظاهرة تكنولوجيا المعلومات، فقد تصدرت نحو 68 دولة تتم فيها ممارسة الغسل الإلكتروني للأموال، والغسل الإلكتروني أضاف إلى مشكلة غسل الأموال بعدا تقنيا مدمرا.
والواقع أن مرتكبي هذه الجرائم يبدأون عملياتهم القذرة عن طريق تحويل النقود إلى سلع وخدمات مختلفة، ليضللوا المسؤولين ويبعدوهم عن الوصول إليهم، إما بإيداع تلك الأموال في أحد المصارف الأجنبية المريبة، أو عن طريق شراء مشتريات ثمينة كالسيارات الفارهة، واليخوت الفخمة، أو العقارات باهظة الثمن، بحيث يسهل بيعها وتحويلها إلى نقود يمكن ضخها في القنوات المصرفية الطبيعية، ثم تدويرها واستخدامها في مزيد من عمليات غسل الأموال. ويزيد من حالة التعقيد في تتبع تلك الأموال حينما تضخ إلى بنوك تطبق نظام السرية المطلقة، وهي المعروفة باسم "الملاذات المصرفية الآمنة" التي تتميز بسرية وصرامة الحسابات، ولذلك حينما تصل الأموال المغسولة إلى هذه البنوك المشبوهة يكون من الصعب جدا التمييز بين تلك الأموال غير المشروعة، والأموال المشروعة، لأن النوعين من الأموال انصهرا في سلة واحدة بحيث يصعب التمييز بينهما.
وواضح مما سبق أن الاقتصادات الوطنية تتضرر كثيرا من غسل الأموال. ويمكننا ملاحظة أن غسل الأموال يأتي على حساب الدخل القومي لمصلحة اقتصادات خارجية، كما أن الغسل يزيد من معدلات السيولة المحلية بشكل لا يتناسب مع معدلات الزيادة في إنتاج السلع والخدمات، كذلك فإن غسل الأموال يغطي عمليات الهروب من سداد الضرائب، ونتيجة لذلك تعاني خزانة الدولة نقصا مستمرا في الإيرادات. كذلك يؤدي غسل الأموال إلى ضعف العملة الوطنية، وإلى إلحاق الأضرار بالسوق المالية، وأيضا يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم بسبب الضغط على المعروض السلعي من فئات يرتفع لديها الميل الحدي للاستهلاك نتيجة للثروات الوهمية الناجمة عن غسل الأموال، كما يؤدي غسل الأموال إلى انخفاض ملحوظ في معدل الادخار، ويؤدي كذلك إلى انتشار ظواهر فساد سوق الاستثمار.
في ضوء كل المثالب الصارخة والناجمة عن غسل الأموال، فإن صندوق النقد الدولي يحذر بشدة جميع دول العالم من استمرار تفشي وباء غسل الأموال، ويطالب جميع دول العالم اتخاذ كافة التدابير والإجراءات الكفيلة بمحاربة جريمة غسل الأموال بكل قوة حتى لا تقع الاقتصادات الوطنية في شراك هذا المرض الاقتصادي والأخلاقي الخبيث.