العقوبات الاقتصادية .. سلاح بين الدبلوماسية والحرب
عاد التلويح باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية بقوة هذه الأيام، فقد أعلن جوزيف بوريل منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة الماضي نية التكتل الأوروبي مناقشة فرض عقوبات على تركيا، في القمة المقبلة للاتحاد في 24 أيلول (سبتمبر) الجاري، كطريقة للرد على النزاع في شرق المتوسط مع اليونان، وقبل ذلك، أقر الاتحاد عقوبات في حق كبار المسؤولين المتشبه في قيامهم بتزوير الانتخابات، وقمع المتظاهرين في بيلاروسيا. من جانبها، هددت برلين على لسان هايكو ماس وزير خارجتها، باستعدادها لفرض عقوبات على روسيا، متى تبين لها أن للحكومة الروسية أيادي في واقعة تسميم المعارض أليكسي نافالني، أحد أشد منتقدي الرئيس فلاديمير بوتين.
تحول نظام فرض العقوبات، مع مرور الوقت، إلى الأداة الأكثر استخداما لتدبير الصراع في العلاقات الدولية، فقد انتقل من مجلس الأمن إلى الدول الكبرى، التي باتت توظفه كوسيلة فاعلة في السياسة الخارجية، خاصة، بعدما تبين لها أن العقوبات الخيار الأمثل، ضمن الخيارات المتاحة في إدارة الصراعات السياسية بين الدول، قبل اللجوء إلى لغة السلاح. وعدّها تيار من الباحثين نمطا "ملطفا" من أنماط التدخل العسكري غير المباشرة، لأنها في نهاية المطاف نوع من الفرض والقسر والإكراه، إنها بمنزلة سلاح بديل، يمكن من تحقيق الأهداف دون الذهاب إلى الحرب.
يتم اللجوء إلى فرض هذه العقوبات الاقتصادية على دولة معينة، لكونها تمثل تهديدا واضحا على أمن الأمة التي فرضت دولتها العقوبات، أو لأن تلك الدولة تعامل مواطنيها بشكل غير عادل. وتشمل في مقتضياتها، فرض مجموعة من القيود على التجارة الدولية مع الدولة المستهدفة، من قبيل حظر أنواع معينة من الأسلحة أو الطعام أو الأدوية أو المواد الخام، أو الحد من التصدير أو الاستيراد من الدولة المستهدفة، قصد دفعها إلى تغيير سياساتها في مجال معين، أو إرغامها على مراجعة مواقفها تجاه قضية محددة.
تجد هذه الوسيلة سندها القانوني، في المادتين 39 و41 من ميثاق الأمم المتحدة، فهما أساس شرعية مجلس الأمن، عند فرض عقوبات اقتصادية على أي دولة، فإحدى المادتين، تمنح مجلس الأمن صلاحية تقرير مدى تهديد السلم أو الإخلال به، أو وقوع عمل من أعمال العدوان، فيما تخوله الأخرى، تقديم توصيات أو مقترحات بشأن ما يجب اتخاذه من تدابير، لا يتطلب تنفيذها الاستعانة بالقوات العسكرية، وقد يطلب من أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، التي من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات البرية والبحرية والجوية وقفا جزئيا أو كليا، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع هذه الدولة.
تتخذ العقوبات الاقتصادية طريقة الحظر أو المقاطعة، وتكون الأولى عبارة عن تعليق تصدير منتج تجاري بعينه إلى هذه الدولة، أو عندما يتخذ قرار بفرض حظر تجاري، جزئي أو كلي، يكون الهدف "إحراج" الدولة المستهدفة، أما المقاطعة، فتتم عبر رفض استيراد منتوج بعينه مصدره الدولة المستهدفة، كما يمكن النظر كذلك في العقوبات المالية، مثل إيقاف القروض والاستثمارات أو تجميد الحسابات المالية في الخارج، وتشمل أيضا فرض مجموعة من القيود على التجارة الدولية مع الدولة المستهدفة.
يتطلب إقرار هذه العقوبات موافقة أغلب الدول الأعضاء في مجلس الأمن وعددها 15 دولة، شريطة ألا تستخدم أي دولة من الدول الخمس دائمة العضوية حق النقض "الفيتو". أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلدى الرئيس والكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب صلاحية إقرار عقوبات جديدة أو تعديل عقوبات حالية، وقد قام بذلك في حالات عديدة.
تاريخيا، كانت هذه الآلية معروفة لدى شعوب وأمم سابقة، ليس باسم العقوبات الاقتصادية، لكن تحت اسم "الحصار". فقد قامت إمبراطوريات وجيوش بفرض أنواع من الحصار الاقتصادي على الدول والجهات التي لا تتوافق معها، واستعمل كوسيلة للتمدد وبسط الهيمنة الخارجية، بضمان الولاء من خلال الدفع بحكام تلك الدول نحو تعديل سياساتهم. هكذا إذن تكون الوسائل المستعملة اقتصادية، لكن البراهين والأهداف سياسية.
يحفل التاريخ المعاصر بمحطات استخدم فيها سلاح العقوبات، حتى قبل عام 1945، موعد تأسيس الأمم المتحدة، فخلال الحرب بين فرنسا وبريطانيا، اختارت الولايات المتحدة الأمريكية البقاء محايدة، وذلك قصد ضمان المتاجرة مع كلا الجانبين، لكن لم يرغب أي من الطرفين في استيراد الإمدادات الأمريكية، وعام 1806 أصدر الإمبراطور نابليون الأول في فرنسا نظاما قاريا، يمنع الدول الأوروبية من المتاجرة مع المملكة المتحدة.
وحديثا، استعمل سلاح العقوبات الاقتصادية في كثير من الحالات، حتى قبل إصدار ميثاق الأمم المتحدة، فقد استعملته عصبة الأمم ضد إيطاليا، عام 1935 بعد غزوها إثيوبيا، كما فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وهولندا عقوبات على اليابان "1940 - 1941"، حرمتها من الوصول إلى إمدادات النفط الخام وخام الحديد والصلب الحيوية. وخلال أزمة قناة السويس، تم إلغاء محاولة من قبل القوات الأنجلو فرنسية للسيطرة على القناة من مصر إلى حد كبير، بسبب عداء الولايات المتحدة للغزو وتهديد الرئيس بفرض عقوبات اقتصادية ضد بريطانيا، واقعة عدها كثيرون المرة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت فيها العقوبات الاقتصادية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بنجاح في الشؤون الدولية.
كانت أول تجارب الأمم المتحدة في تطبيق العقوبات الاقتصادية، بموجب بنود ميثاق الأمم المتحدة، بمقتضى القرارين الأمميين 216 و217 على الزيمبابوي عام 1966، والقرار رقم 277 عام 1970، تلتها العقوبات المفروضة على جنوب إفريقيا، بالقرار رقم 418 الصادر في عام 1977، وأعيد فرضه بالقرار 558 الصادر في عام 1984. بعد انتهاء الحرب الباردة، تزايد إقبال مجلس الأمن على فرض العقوبات الاقتصادية الجماعية، ففرضت على العراق، يوغوسلافيا، هايتي، الصومال، ليبيا، ليبريا، أنجولا، رواندا، السودان، سورية، وكوريا الشمالية.
تعد إيران إحدى الدول الأكثر تعرضا لهذه الآلية، فمجلس الأمن فرض عليها أربع مجموعات من العقوبات، في كانون الأول (ديسمبر) 2006، وفي آذار (مارس) 2007، وآذار (مارس) 2008، وفي حزيران (يونيو) 2010. أما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فقد فرضا مبكرا مجموعة من العقوبات بعد احتجاز دبلوماسيين رهائن عام 1979.
يعد سلاح العقوبات الاقتصادية مسارا وسطا بين الدبلوماسية والحرب، لكنه في عيون ضحاياه حرب صامتة أقوى ألما وتأثيرا من الحرب المباشرة، لما يخلفه من جوعى ومرضى ومعطوبين، جراء سياسة العقوبات. قصد تجاوز ذلك، كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن العقوبات الذكية، لتلافي الأزمات الإنسانية التي أوقعتها العقوبات الاقتصادية الشاملة.