المخدرات الجديدة
ابن صديقي لا يخرج من غرفته إلا ليعود إليها. يبلغ من العمر نحو 15 عاما، لكنه لا يجيد التواصل مع الآخرين وجها لوجه.
التقيته مرات عدة في منزله، كان القاسم المشترك في تلك اللقاءات العابرة أن يمد يده نحوي على عجل، وعيناه تتجهان إلى الأعلى أو الأسفل.
لا أذكر أنه وجه بصره تجاهي، سرعان ما تلمس يده يدي في مجلس والده، ثم يفر عائدا إلى الداخل بسرعة، مخلفا وراءه أسئلة عديدة عن سر خجله المتفاقم وسلوكه المثير.
شاركني أبوه مرة حسابه على إحدى منصات التواصل، فوجدته شخصية أخاذة في تواصلها، يرد على الجميع بانهمار وتركيز.
اكتشفت أنه ليس الوحيد الذي يتمتع بغياب واقعي ساطع، وحضور افتراضي فائق.
كثيرون يشبهونه ويشبههم. لقد حولتهم منصات التواصل إلى كائنات إلكترونية لا تطفو إلا على الفضاء السايبري، كأسماك لا تجيد السباحة خارج محيطها وأحواضها.
تقول آنا ليمبك، المتخصصة في علم النفس ومديرة أبحاث الإدمان في جامعة ستانفورد، إن البشر طوال القرون الماضية لم يكن يهمهم سوى قبول مجموعة محدودة من المحيطين بهم ورضاهم، ولكنهم بسبب وسائل التواصل باتوا عرضة لانتقادات وتعليقات من آلاف الأشخاص، وباتوا مضطرين للبحث عن الرضا عن الذات كل يوم، وهو أمر يسبب ضغطا نفسيا هائلا، خاصة على صغار السن.
وترى المتخصصة في علم النفس، أن الجري وراء الإعجابات، والاستخدام الزائد للفلاتر التي تبدل من شكل الوجوه، يزيد من أعداد المنتحرين والمكتئبين بين المراهقين، حتى ممن هم دون سن المراهقة. وتشير المتخصصة في علم النفس إلى أن وسائل التواصل ليست جهازا مثل الدراجة مثلا، بل هي أدوات لديها متطلبات واحتياجات يتوجب على البشر تلبيتها. تقول، "وسائل التواصل هي مخدرات تساعد على إنتاج مادة الدوبامين في الدماغ، ويمكن الإدمان عليها".
ليس المتخصصون فحسب، الجميع يلحظ الانغماس الكبير في شبكات التواصل، كبارا وصغار، وتحديدا المراهقون الذين يتوافرون بإسراف على "أون لاين"، ويضخون طاقتهم وحماسهم وتركيزهم في تلك المنصات، تاركين للحياة الطبيعية بقايا طعام الوقت، والنزر اليسير الذي لا يقيم الأود ولا يسد الجوع.
لقد حاول فيلم المعضلة الاجتماعية The Social Dilemma الوثائقي - درامي، الذي أنتجته منصة نتفليكس، وعرضته في سبتمبر 2020، الإجابة عن أسرار صعود وسائل التواصل الاجتماعي، والأضرار التي سببتها وتسببها للمجتمع. وقدم عبر المشاركين فيه من قيادات سابقة لبعض منصات التواصل الشهيرة، ومن باحثين مرموقين، شهادات جديرة بالاطلاع والتأمل.
ثمة نعم جلبتها وسائل التواصل ونقم أيضا، علينا أن نتعاطى معها بذكاء وتوازن، حتى نجني منها، ولا تجني علينا.