القواعد العسكرية .. سلاح التوسع الناعم
يرجح أن يكون حديث أفلاطون عن أن حماية الحضارات لا تكون فقط ببناء الأسوار حولها، إنما بانطلاق الجنود الذين يتخطون أسوار حدود دولهم إلى مواقع أعدائهم أو أماكن قريبة منهم أو أراض لحلفائهم، يتحصنون فيها قصد منع الأعداء من مجرد التفكير في غزو أراضيهم، النواة الأولى التي استند إليها الخبراء الاستراتيجيون للتفكير في استراتيجية التجمعات العسكرية للجنود خارج النطاق الإقليمي للدولة.
يسود اعتقاد خاطئ مفاده ربط القواعد العسكرية بنشأة الدولة الوطنية الحديثة، فيما تذهب كتب التاريخ إلى أن الإمبراطورية الرومانية استخدمت فكرة القواعد العسكرية، فقد شكلت إقامتها - بحسب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي - المنهجية الأساسية التي مكنت روما من فرض تفوقها السياسي على العالم، وجعلتها تقترح على حلفائها المساهمة في توفير الحماية لهم، نظير التنازل عن مناطق محصنة من أراضيهم قصد تشييد قواعد عسكرية.
حرصت الدول الكبرى على مدار القرن الماضي، على تأمين موطئ قدم لها، في عدة مناطق في العالم، ذودا عن مصالحها أو دفاعا عن مصالح حلفائها المقربين، أو ضمانا لأهداف استراتيجية خاصة، في هذه الرقعة المحدودة أو في ذاك الإقليم الممتد. وكان احتدام الصراع بين القوى الاستعمارية وراء إسراعها نحو تشييد قواعد عسكرية، استطاعت بواسطتها تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية، فكانت الأداة المثلى لبسط سيطرتها الخارجية، وتحديد تخوم نفوذها الدولية، وإثبات قدرتها العسكرية. وراوح استخدامها، بحسب حجم وبنية القاعدة العسكرية، بين إدارة الحروب الاستطلاعية لتوجيه الأحداث، أو اتخاذها مناطق تجمع عسكرية أو نقطا للدعم اللوجستي، أو لتوفير خدمات الاتصالات والدعم الاستخباراتي.
أخذت القواعد العسكرية في العصر الحديث بعدا جديدا، تمثل في استخدامها عوضا عن فكرة المستعمرات التي كانت القوى الكبرى الأوروبية تبرر بها احتلال الدول، فعدّها البعض بديلا ناعما حل محل المستعمرات القديمة، وقد ينقلب دورها إلى النقيض أحيانا، فيصير الاحتلال تحالفا، حين تستجدي دول ضعيفة مهددة حماية دول قوية من عدو أجنبي طامع فيها.
مثلت هذه الاستراتيجية الوسيلة الفضلى التي مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من بسط نفوذها على العالم، مع تراجع فكرة الاستعمار واحتلال الأرض من جانب القوى الكبرى، وتعززت بقوة في حقبة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، حيث هرعت كلتا القوتين إلى إقامة قواعد عسكرية في أنحاء العالم، لتطويق طموح منافستها ومراقبة تحركاتها العسكرية، في إطار التنافس الاستراتيجي بينهما.
طوقت الولايات المتحدة الأمريكية العالم بشبكة واسعة من القواعد العسكرية، اتخذت شكل قوسين، ربط الأول والأقدم زمنيا بين القارتين الأوروبية والآسيوية، وامتد الثاني، الأحدث نسبيا، على شكل حزام بين دول العالم الثالث، من أمريكا الجنوبية، مرورا بدول شمال وغرب إفريقيا، حتى الشرق الأوسط وانتهاء بالفلبين وإندونيسيا. مكن هذا الانتشار واشنطن من تحصين إمبراطوريتها، وبوأها الصدارة في قائمة الدول ذات القواعد العسكرية في الخارج.
حاليا، تنتشر مئات من القواعد العسكرية الأمريكية في أكثر من 70 دولة في أنحاء العالم، على مساحة تبلغ، وفق أرقام الحكومة الأمريكية، أزيد من 710 آلاف كيلو متر مربع، وكلفت قيمة إنشائها نحو 750 مليار دولار، وقدرت تقارير صحافة الميزانية السنوية لإبقاء هذه القواعد والقوات الأمريكية بما بين 85 إلى مائة مليار دولار، يقفز هذا الرقم إلى ما بين 160 إلى 200 مليار دولار سنويا، بإضافة العمليات العسكرية التي تقوم بها هذه القوات.
في أوروبا، تتصدر ألمانيا دول العالم في عدد القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها، حيث تضم 87 قاعدة عسكرية ضمنها 21 قاعدة رئيسة، تستضيف الجزء الأكبر من القوات الأمريكية في القارة العجوز. تعود قاعدة رامشتاين الجوية أكبرها حجما إلى عام 1951، وتسمى المنطقة المحيطة بها باسم "أمريكيا الصغرى"، نظرا إلى وجود 50 ألف فرد أمريكي فيها، أما ثاني أكبر القواعد، فهي قاعدة شبانجدهالم الجوية الواقعة بالقرب من الحدود مع بلجيكا ولوكسمبورج، وكانت بمنزلة السد المنيع لحماية ألمانيا "الغربية ثم الموحدة" من التهديد الروسي.
تضم إيطاليا التي قاتلت ضد واشنطن في الحرب العالمية الثانية 29 منشأة عسكرية أمريكية، لحماية الحدود البحرية الأوروبية والمصالح الأمريكية في المتوسط، واتخذت البحرية الأمريكية من شواطئ مدن نابولي وجيتا قواعد رئيسة للسفن الحربية العاملة في البحر المتوسط، إضافة إلى ثلاث قواعد عسكرية في فيتشينزا وكامب ديربي وليجهورن، فضلا عن قاعدة جوية بحرية في مدينة كاتانيا في جزيرة صقلية.
أقامت أمريكا قواعدها العسكرية على أراضي الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، إذ يبلغ عددها حاليا 16 قاعدة عسكرية، في مقدمتها قاعدة قرية ليكنهيث في شرق البلاد، التي كانت محور العمليات ضد النظام النازي الألماني في شمال أوروبا في الحرب العالمية الثانية. حتى في بلجيكا حيث مقر حلف الناتو، أيقونة التعاون العسكري الغربي، توجد تسع قواعد عسكرية أمريكية، الرقم ذاته يتكرر في البرتغال، مفترق طرق الأطلسي ونقطة اتصال بين أوروبا وإفريقيا، حيث كانت البداية مع قاعدة لاجس فيلد الجوية في جزر الأزور التي أنشئت عام 1949.
في آسيا، تأتي اليابان على رأس الدول المحتضنة للقواعد بـ86 قاعدة، انتشرت فيها بقوة خلال فترة الحرب الباردة لتطويق الصين والاتحاد السوفياتي، وذلك بموجب تقنين ستينيات القرن، الذي يقضي بمنح الولايات المتحدة أراضي ومساعدات لوجستية، مقابل توفير الثانية الحماية لليابان، لكن انهيار الاتحاد السوفياتي لم يفض إلى التقليل من تلك القواعد، فلا تزال الولايات المتحدة تسيطر على أكثر من 30 قاعدة عسكرية في مقاطعة أوكيناوا.
كوريا الجنوبية بدورها نقطة ارتكاز مهم للقوات الأمريكية في آسيا، حيث توجد 64 قاعدة عسكرية على الأراضي الكورية، التي شهدت الحرب الكورية إحدى أعنف معارك القرن الـ20، أكثر من ذلك، يعد معسكر همفريز في كوريا أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم.
اهتمام البيت الأبيض بالقواعد العسكرية في القارة السمراء طارئ، وثمة خبراء يؤرخون لذلك بعام 1992 بعد تولي ديك تشيني حقيبة وزير الدفاع في عهد بوش الأب، حيث انتشرت عقيدة جديدة تدعو إلى تأمين هيمنة الولايات المتحدة على العالم خلال القرن الـ21، وتطورت تلك الاستراتيجية في عهد بوش الابن تحت اسم "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، وتم تفصيله في تقرير صدر عام 2000 بعنوان "إعادة بناء الدفاع الأمريكي"، كان الرفع من الإنفاق العسكري، وإقامة القواعد العسكرية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا من جملة ما دعا إليه.
تركزت القوات الأمريكية في قاعدة ليمونيه في جيبوتي بداية من عام 2002، نظرا إلى الموقع الاستراتيجي للدولة المطل على باب المندب الفاصل بين خليج عدن والبحر الأحمر، ومقدرة القوات الأمريكية على محاربة القرصنة والإرهاب انطلاقا من الترابي الجيبوتي، وتحول المعسكر تدريجيا إلى مقر قوة العمل المشتركة CJTF في القرن الإفريقي، التي تتولى مراقبة المجال الجوي والبحري والبري لست دول إفريقية "السودان، إريتريا، الصومال، جيبوتي، كينيا، فضلا عن اليمن".
تعمل قوى إقليمية "تركيا، روسيا..." على مسايرة التجربة الأمريكية بنشر قواعد عسكرية في الخارج، لتعزيز نفوذها الإقليمي وضمان إنعاش اقتصادها. يبقى المثير للانتباه أن هذه الأداة لم تنل اهتمام الصين، التي تسعى إلى فرض سيطرتها الناعمة، فهل معنى ذلك أن القواعد العسكرية لبسط الهيمنة والسيطرة بين الكبار أضحت جزءا من التاريخ، أم أن بكين تحرص على وسائل مبتكرة للهيمنة، بعيدا عن تقليد واتباع واشطن؟