أزمة الديون .. سيناريو أكثر غموضا
لا توجد دولة في العالم اليوم لم تعصف بها أزمة كورونا أو باقتصادها، فالجميع في مواجهة تحديات كبيرة ترتكز على البحث عن علاج ومساعدة القطاع الخاص والأسر على مواجهة الإجراءات الاحترازية الصحية، التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية، ولا توجد دولة - تقريبا - قادرة على أن تخالف الاتجاه العالمي في هذه الاحترازات. كما أن التباطؤ فيها أو عدم تنفيذها بالشكل المطلوب، يعني عودة انتشار الجائحة حول العالم، أو أن تواجه هذه الدول غضب الدول المجاورة لها.
لهذا، فإن تطبيق الاحترازات أصبح أمرا لا مفر منه، وهذا يعني اتساع الأضرار على القطاع الخاص والتجارة الداخلية في أي بلد، وبالتالي تقلص الإيرادات الضريبية للحكومات، وستكون الآثار أشد إيلاما إذا كانت الدول تعتمد في دخلها على القطاع السياحي، الذي توقف تماما، ولا يحتمل عودة الأمور إلى طبيعتها إلا بعد عام 2022. عملت المنظمات الدولية بكفاءة عالية حتى الآن لمواجهة التداعيات المتوالية لهذه الجائحة، لكن الأمر اللافت للانتباه، الدور القيادي الكبير، الذي قامت به مجموعة العشرين خلال هذه الدورة، وبرئاسة السعودية، وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين، فقد استطاعت المجموعة قيادة شبكة واسعة من التواصل والحوار العالمي، الذي مكن من القيام بتنسيق كبير للحد من آثار الجائحة، صحيا واجتماعيا واقتصاديا.
فبينما منحت الدول الكبرى، وفي مقدمتها السعودية، مبالغ كبيرة لمنظمة الصحة العالمية، تم توفير حزم ضخمة جدا من دعم الاقتصاد العالمي، تجاوزت سبعة تريليونات دولار، كما تم الاتفاق على مبادرات للإعفاء من الديون أو من تكلفة الدين، وقاد البنك الدولي حزمة من المساعدات الضخمة للدول الناشئة.
ومع ذلك، فإن السحب الداكنة لم تزل تعم أجواء الاقتصاد الدولي، ولن ينجو من براثن الانكماش في هذا العام، إضافة إلى الدول المثقلة اقتصاداتها بالديون، خاصة الدول منخفضة الدخل وضعيفة الإنتاج. هذا الانكماش الذي سيفرض حضوره بقوة في شكل الاقتصاد العالمي في الأعوام القليلة المقبلة. ومع تصاعد المخاوف بشأن تجدد موجة تفش ثانية لفيروس كورونا، قد ترتفع - بكل تأكيد - حدة التوقعات بخصوص أزمة الديون العالمية المتفاقمة، والضرر الكبير الناجم عن تردي الأوضاع الاقتصادية لعمليات الإغلاق التي يمكن أن تتكرر، إذا اشتدت رياح الموجة الثانية من الوباء المميت، بما تحمله من تأثيرات أكثر ضراوة تقوض فرص التعافي الاقتصادي، ولو تدريجيا، لندخل في سيناريو أكثر غموضا. حقيقة، عانت الحكومات كافة تراجع النمو الاقتصادي، وتراجع إيرادات المالية العامة، ولم تبق صناعة لم تواجه مخاطر الانكماش، وبينما تعول الدول الثرية على قدرات قطاعها المالي المتمثل في بنكها المركزي وبنوكها المحلية لإقراضها وتمويل حزم الدعم والتحفيز، وفي الوقت الذي استفادت الدول الفقيرة من مبادرة تخفيف الديون من مجموعة العشرين، فإن هناك أكثر من 100 دولة حول العالم لم تستفد من مبادرات الإعفاء الثنائية، ولا قطاعها المالي، لتمويل برامجها، وستواجه هذه الدول - حتما - تحديات الاقتراض وزيادة حجم الدين العام.
وفي هذا المسار المعقد، أظهرت بيانات بنك التسويات الدولية، التي نشرتها "الاقتصادية" أخيرا، أن ديون الأسواق الناشئة المقومة بالدولار، تجاوزت أربعة تريليونات دولار للمرة الأولى في أعقاب زيادة إصدارات الدين خلال أزمة كوفيد - 19، أي بزيادة مقدارها 14 في المائة في الربع الثاني بين نيسان (أبريل) وحزيران (يونيو). وشجعت تكلفة الإقراض المنخفضة تلك الدول على الاستفادة من هذه الفائدة المنخفضة لزيادة حجم إصداراتها من أدوات الدين، كما أن التساهل الذي يشهده العالم وروح الدعم السائدة اليوم، يعززان قبول أنواع من السندات ذات التصنيف المنخفض في مقابل التفاؤل بأن تقوم الدول المقترضة بتوجيه هذه الأموال نحو حزم من الدعم الموجه لتحفيز الاقتصاد، لكن الأسواق الناشئة كثيرا ما تخيب الآمال عندما تواجه خطر عدم قدرتها على سداد الديون بالدولار مع انخفاض قيمة عملاتها.
لقد أكدت تقارير منظمة الصحة العالمية أن سبعا من أصل عشر دول ذات أعلى معدل إصابات بكوفيد - 19 عالميا، هي دول نامية، وتوقف عديد من تلك الدول عن محاولة احتواء الفيروس والسيطرة على انتشاره، ودخلت الدول متوسطة الدخل في وضع سيئ يتسم بارتفاع مستويات الدين وركود الاقتصاد ومعاناة الأنظمة الصحية العامة، وهذا يعطي مؤشرات مقلقة بأن الركود قد يصبح طويلا وعميقا لما يكفي لتضخيم عجز الموازنة وإشعال سلسلة من خفض التصنيف الائتماني، ما سيعرض عديدا من سندات الدول الناشئة لخطر التعثر على مدار العام المقبل أو نحو ذلك.
وفي ظل هذه التصورات، خاصة أزمة الديون الحالية، التي تثير القلق ولها تأثير كبير في زعزعة مفاصل النظام المالي العالمي، فإن القلق سيظل سيد الموقف، والمراقبة الحذرة أمر لا مفر منه، وسيكون التحوط سيد الموقف في المستقبل المجهول.