هل نحتاج إلى مشغل لنظام التوزيع الكهربائي ؟

تتكون منظومة الطاقة الكهربائية من ثلاثة كيانات رئيسة: التوليد والنقل والتوزيع. يتولى قطاع التوليد إنتاج الكهرباء بكل أشكالها من مصادر متنوعة كالأحفورية والشمسية والرياح والمائية والنووية وغيرها. وفي قطاع التوليد قد نرى حالات احتكار أو قد تكون تحت طائلة السوق والتنافسية أو قد تكون مزيجا بين هذا وذاك، وقد نرى القطاع الخاص يدخل من بوابة إنتاج توليد مستقل Independent Power Producer. وغالبا نرى قطاع النقل محتكرا في شركة واحدة ويخضع للوائح خاصة يسنها المنظم. ولا يوجد إلا أمثلة قليلة من شركات النقل، نظرا لتكلفة إنشاء البنية التحتية للنقل أو قد تكون موزعة جغرافيا مثل: الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا. وتجري الفكرة التنظيمية نفسها تقريبا على قطاع التوزيع، الذي يتولى توزيع وإيصال الكهرباء إلى المستهلكين إلى جانب إدارة العملاء والفوترة والعدادات، ولكن تشكل خصخصة قطاع التوزيع عملية مرهقة اقتصاديا وفنيا وقانونيا وتنظيميا. تتولى شركة النقل الكهربائي إنشاء مشاريع النقل وتحديدها وصيانتها والتعاون والتنسيق مع قطاع التوليد والتوزيع، ويتولى مشغل نظام النقل Transmission System Operator التنسيق والمراقبة والتحكم في منظومة النقل الكهربائي من حيث الموثوقية وأمنية الطاقة والأهم جدولة وتحميل مولدات محطات التوليد أو ما يسمى Dispatch. ولأنه لا يمكن تخزين الكهرباء في خطوط الطاقة فيجب على مشغل نظام النقل عندئذ الموازنة بين تلك الطاقة المنتجة من المحطات وتلبية الطلب عليها من جانب المستهلكين بصورة آنية. ويتولى المشغل مراقبة نقل الطاقة الكهربائية من محطات التوليد عبر الشبكة الكهربائية إلى مشغلي توزيع الكهرباء (أو كبار المستهلكين في شبكة النقل) في الوقت الفعلي Real-Time Operation. وتكون جدولة إدخال المحطات إلى المنظومة بناء على ضوابط اقتصادية (مثل سعر كيلو وات ساعة) أو فنية (مثل كفاءة مولدات التوليد) أو تنظيمية (مثل إنتاج توليد مستقل أو إعطاء الأولوية لمحطات طاقة متجددة) أو مزيجا بينها. وإذا كان مشغل نظام النقل يملك صفة الاستقلالية ماليا وإداريا عن الشركة فيسمى حينها مشغل النظام المستقل Independent System operator إضافة إلى عوامل أخرى يطول شرحها في هذا المقام.
وبالمثل في قطاع التوزيع، حيث يؤسس مشغل نظام التوزيع Distribution System Operator أو Distribution Network Operator لمراقبة وإدارة التدفقات الكهربائية ومتابعة حالة شبكة التوزيع بشكل صحيح وتحديد إجراءات التحكم المناسبة بحكم ازدواجية حركة الكهرباء. وتختلف الممارسات العالمية بين دمج مشغل نظام التوزيع مع مشغل نظام النقل أو فصلهما، حيث إن الاستقلالية قد تكون مكلفة وغالبا لا تمثل التنظيم المثالي. ويرى أصحاب الفصل إمكانية تأسيس مشغل نظام نقل واحد وعدة مشغلين لنظام توزيع، نظرا للتقسيم الإداري للبلد والتوزيع السكاني والكهربائي ورقعة شركات التوزيع. على سبيل المثال، يوجد 14 مشغل نظام توزيع (مرخص لهم من قبل المنظم Ofgem) في بريطانيا وكل مشغل مسؤول عن منطقة خدمات توزيع إقليمية، ولكن ترجع الملكية إلى ست شركات مختلفة. يلتزم مشغل نظام التوزيع بتقليل الفقد ومراقبة الاختناق الكهربائي Electric Congestion، إضافة إلى ضرورة التواصل المباشر مع مشغل نظام النقل، ومن المهم أن يكون هناك تقاطع وظيفي بين عمليات البيع بالجملة التجارية Wholesale Transactions بين نظامي النقل والتوزيع. يتم التحكم التلقائي في نقاط التواصل بين شبكتي النقل والتوزيع من خلال عدادات ذكية لتسجيل كل التدفقات الكهربائية، حيث يعد التحكم التلقائي أحد أنجع الحلول فاعلية في الوقت الحاضر من حيث التكلفة لتحسين الموثوقية والتشغيل الأمثل والتحكم الذكي وحماية الشبكة، ويلعب نظام سكادا SCADA دورا مهما في تشغيل شبكات التوزيع، نظرا لوجود إمكانات متقدمة في هذا النظام لجمع البيانات عن طريق أتمتة شبكة التوزيع بأكملها وتسهيل المراقبة عن بعد والتنسيق والتحكم وتشغيل مكونات التوزيع تباعا.
إن المتأمل حاليا في صناعة الكهرباء السعودية، يرى أن مشغل نظام النقل ينتمي بأكمله إلى الشركة الوطنية لنقل الكهرباء "النقل" ولا تدعو الحاجة حاليا إلى إنشاء مشغل النظام المستقل لنظرا للتكاليف المترتبة على استقلاليته. كما أننا لم نصل بعد إلى سوق كهرباء تنافسية Competitive Electricity Market لكي نفكر في مشغل نظام السوق Market System Operator وتبعات إنشائه القانونية والاقتصادية والتنظيمية. ولا يزال دور الشركة السعودية لشراء الطاقة "المشتري الرئيس" قائما ضمن منظومة الشركة الأم (الشركة السعودية للكهرباء) ويلعب دورا حيويا في الجانب التجاري في صناعة الكهرباء، وعهد الجانب الفني إلى مشغل نظام النقل، لكن المشاهد أن مشغل نظام التوزيع لا يزال تحت الإنشاء أو أنه لم يفعل بالشكل الصحيح في قطاع التوزيع. بينما نرى مناسبة التوجه الحالي نحو إنشاء شركة نقل وتوزيع الكهرباء وفصل شركة التوليد تحت مظلة الشركة الأم، فمن الضروري تحديد كيان (أو كيانات) مشغل نظام التوزيع لكي تتحكم في التدفقات الكهربائية من محطات التوليد في شبكات التوزيع والألواح الكهروضوئية الشمسية في أسقف البيوت والمنازل والمراكز التجارية وشحن السيارات الكهربائية (وقد يكون تفريغها لاحقا). والملاحظ أننا لم نحتج إلى هذا الكيان طالما أن التدفقات الكهربائية تسير في اتجاه واحد من الأعلى (النقل)، مرورا بشبكة التوزيع وصولا إلى المستهلك النهائي. وعليه مثلت التنظيمات الجديدة التي تم إعدادها أخيرا من قبل هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج دافعا لإنشاء هذا الكيان الحيوي، وستدفع تلك التنظيمات والتشريعات الجديدة (ومنها التشريع الخاص بتخزين الطاقة والذي نأمل أن يرى النور قريبا) نحو تحرك مزيد من التدفقات الكهربائية في اتجاهين وليس في اتجاه واحد في منظومة التوزيع.
لقد التزمت الشركة السعودية للكهرباء أخيرا نحو تبني أسس الشبكات الذكية ورسمتها ضمن الأهداف الاستراتيجية المستقبلية لها، حيث يتم التركيز على تقديم خدمات رقمية للعملاء واستخدام العدادات الذكية. وترتكز الاستراتيجية على بنية تحتية ذكية ورقمية بحيث تتمتع بخاصية التفاعل الذاتي وتعزز موثوقية الخدمة المقدمة للمستهلك. ولا يمكن المضي قدما نحو تطبيق مفاهيم الشبكات الذكية من غير مراقبة وتحكم دقيقة، ولذلك نرى أن أغلب مشاريع واستثمارات الشبكات الذكية في قطاع التوزيع تجاوزت 70 في المائة حسب الممارسات العالمية. ويدخل بها إنشاء البنية التحتية المتقدمة للعدادات Advanced Metering Infrastructure مثل مشاريع العدادات الذكية وإدارة البيانات وتحديد طبيعة الاتصال المناسب، وتطوير شبكات التوزيع مثل مشاريع مراقبة وتحكم الشبكة وتطوير نظام سكادا، وتحسين أنظمة العملاء بما فيها الفوترة وتأهيل المباني والأجهزة اللازمة. كذلك لا يمكن تفعيل محطات الطاقة الافتراضية Virtual Power Plants إلا من خلال مشغل نظام التوزيع، حيث تعتمد مثل هذه المحطات على النظام السحابي لجمع القدرات الكهربائية، سواء من محطات التوليد المتوزع اللامركزية Distributed Generation لتعزيز أسطول توليد الكهرباء أو عن طريق تداول وبيع الطاقة في سوق الكهرباء Electricity Market. وتوجد أمثلة حية لمحطات الطاقة الافتراضية في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا، ولعل مثل هذه المحطات ترى النور في شبكة التوزيع لما لها من أثر مميز في توفير الخدمات الإضافية Ancillary Services لمشغل النظام في سبيل الحفاظ على استقرارية الشبكة. وسيثري بكل تأكيد تشغيل أنظمة الشبكات الصغيرة Micro-Grids في معالجة مواطن الارتياب وإمكانية التوسع، نظرا لوجود مراقب ومتحكم فعال في شبكات التوزيع. ولا شك أن مشغل نظام التوزيع سيمكن من إنتاج الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة في شبكات التوزيع، بهدف تحقيق مستهدفات مزيج الطاقة الأمثل لإنتاج الكهرباء حسب "رؤية المملكة 2030". إن تكوين مشغل نظام التوزيع سيسهل على المنظم المضي نحو تشريع تعريفة المرور في شبكة التوزيع Distribution Use of System Tariff أسوة بالتشريع الحالي المختص في النقل وعليه سيساعد مجالات الصناعة بصورة كبيرة وسوق الكهرباء لاحقا.
والسؤال الآن، هل سيكون لدينا مشغل نظام توزيع واحد أو عدة مشغلين لنظام توزيع بناء على تقسيم الشركة الإداري؟ وكيف سيكون طبيعة التواصل بين مشغل نظام النقل ومشغل نظام التوزيع؟ وما طبيعة البيانات المتداولة بينهما؟ وهل ستكون ملكية منفصلة عن النقل أو دمج مشغلي النقل والتوزيع معا؟ إن الدفع نحو الدمج هو لتسهيل التواصل بين المشغلين وعدم الخوض في الفصل المالي وملاءمته مع واقع الشركة الجديدة (شركة نقل وتوزيع الكهرباء). وفي الإمكان الاستفادة من نظام موحد لتخزين البيانات وإدارة الأصول الحقيقية والبينية، حتى الوصول إلى سوق كهرباء تنافسية، وسيستفاد من المعلومات، التي يتم جمعها بوساطة البنية التحتية المتقدمة للقياس، التي تعد ذات قيمة في اتخاذ القرار بشأن تمديد العمر التشغيلي أو تجديد الأصول أو تصميم استراتيجيات الإدارة التنبؤية وتقييم تأثيرها في موثوقية النظام. ولكن يرجع استقلال مشغل نظام التوزيع عن النقل إلى تعزيز المسؤولية وكفاءة التنفيذ وطبيعة العمل وتأكيد استقلالية قطاع النقل عن التوزيع، وعليه نرى عدة سيناريوهات تستحق النظر والدراسة والتمحيص.
في الختام، ليس من السهل إنشاء مشغل نظام التوزيع خلال ليلة وضحاها، لوجود متطلبات فنية وقانونية واقتصادية، والأهم متطلبات تنظيمية، حيث يتطلب حصول مشغل نظام التوزيع على رخصة من المنظم لممارسة عمله والقيام بواجباته. إن عملية الإنشاء والتكوين ستأخذ وقتا ليس بالقصير، نظرا لاتساع مساحة التوزيع في أرجاء المملكة وتنوعها، والتأكد من البيانات المتوافرة، لكنه على أي حال أمر في غاية الضرورة والأهمية لمستقبل صناعة الكهرباء في المملكة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي