صدر خاما واستورد منتجا
بلا شك تحتل الصناعة ركنا مهما في تطور اقتصاد أي بلد وتحقيق الاستقرار والقوة له، لذلك احتلت الصناعة أهمية خاصة في رؤية المملكة 2030، حيث وجود صناعة قوية ومتنوعة تحقق اكتفاء معقولا لكثير من المنتجات، طبعا لا يعقل أن يطالب أحد بتحقيق بلد اكتفاء كاملا من المنتجات والصناعات في ظل العولمة والاعتماد الحتمي على سلاسل الإمداد العالمية، لذلك هناك صناعات تكون قوية ومنافسة في بلد مثل الصين لكن في الوقت نفسه هي ضعيفة في صناعات أخرى، وتظل الصين تعتمد على دول أخرى في هذه الصناعات، وهكذا قس على جميع دول العالم، لكن هناك دول وضعها أسوأ بكثير من هذا المثال، حيث تعتمد اعتمادا شبه كامل على الاستيراد وهذا يجد مشكلات كبيرة أولها اختلال ميزان المدفوعات والميزان التجاري الذي يؤدي إلى ضعف القوة الاقتصادية وخضوع الدولة إلى قوى الدول الكبرى والمؤسسات الدولية المقرضة وغيرها من المشكلات، وهنا تبرز أهمية وجود صناعة محلية، خصوصا إذا غابت أي قوى تنافسية أخرى مثل الخدمات وغيرها. لدينا في السعودية قاعدة صناعية بنيت على أساس النفط، لذلك تشكل الصناعة النفطية وتكرير النفط النسبة الكبرى منها ثم تليها الصناعات المعتمدة على النفط مثل البتروكيميكال ثم بدرجة أقل بكثير الصناعات الأخرى، وكي نستطيع الحديث عن صناعة قوية يجب أن تحقق عدة شروط منها: أن تكون إنتاجية وذات كفاءة، كذلك موظفة أي بمعنى تعتمد أكثر على الكوادر الوطنية لا على العمالة المستوردة الرخيصة، وأن تكون قادرة على المنافسة خارجيا من ناحية الجودة والسعر والموثوقية.
فلا فائدة من صناعة ذات كفاءة ضعيفة إلا إذا كانت في بداياتها ومخطط لرفعها مع الوقت، وكذلك لا فائدة كبيرة للاقتصاد من صناعة تقوم فقط على العمالة الرخيصة المستوردة، فهي لم تحقق أحد أهم الفوائد الاقتصادية وهو إيجاد الوظائف، وأخيرا الصناعة التي لا تستطيع المنافسة مع المستورد أو المنافسة في الأسواق الخارجية من ناحية الجودة والسعر، فهي لن تستطيع الاستمرار فيجب أن تنافس خارجيا حتى تستطيع البيع وجلب العملة إلى البلد، وكذلك إذا هي تبيع محليا فهي تخفف من اختلال الميزان التجاري والمدفوعات عبر تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات كبديل للمستورد، الذي يتم دفع فاتورته بالعملة الصعبة.
واقع الصناعة لدينا في السعودية لا يزال في أول مرحلة في الصناعات، حيث يقوم على صناعة المادة الخام أو ما يسمى المنبع وهي أضعف وأقل سلاسل الصناعة من ناحية هوامش الربحية وتأثرها الشديد بالدورات الاقتصادية وعدم تقدمها، فصناعة النفط رغم كل تعقيداتها من ناحية الاستخراج والمعامل والنقل وغيرها إلا أنها لا تمثل إلا أول سلاسل الإمداد وأقلها ربحية في العادة، فصناعة النفط من ناحية أنها أول سلاسل الإمداد في الصناعة مثلها مثل من يقطع الأشجار ويبيعها كخشب ليعود يستوردها من البلد الذي باعها له كقطع أثاث ومكاتب بسعر أكثر بكثير من الخشب الخام، أو مثل من يبيع أرضا خاما لمطور عقاري ثم يعود ويشتري من المطور بعد فترة بيتا في جزء من الأرض التي باعها نفسها، أو مثل من لديه منجم ذهب يبيع الذهب خاما إلى دولة أخرى ثم يعود ويستورده على شكل حلي، الأمثلة على هذا كثيرة وهذه طبيعة الاقتصاد على أي حال، هناك دول واقتصادات تقوم على صناعة المواد الخام وهناك دول لا يوجد بها أي موارد للمواد الخام تقوم باستيرادها ثم إعادة استخدامها في صناعات مختلفة ومن ثم تقديمها كمنتجات نهائية للمستهلكين، ولعل أفضل بلد لهذا المثال هو اليابان التي لا تملك أي مواد خام طبيعية، ولذلك هي تستوردها لكن المميز بها هي تطويرهم للصناعات التحويلية والنهائية بشكل متقدم، لتبيع لنا السيارات والأجهزة الكهربائية وغيرها.
أرقام التصدير والاستيراد في السعودية تعكس ضعف هيكلة الصناعة لدينا، حسب البيانات من تقرير البنك المركزي السنوي، الصادرات السلعية بلغت عام 2019 حدود 980 مليار ريال شكلت الصادرات النفطية أكثر من 77 في المائة منها بحدود 759 مليار ريال وغير النفطية - تشمل البتروكيميكال -، 221 مليار ريال بنسبة 22 في المائة فقط، ولو صنفنا الصادرات حسب مرحلة التصنيع فسنجد أن 65 في المائة منها صادرات تصنف على أنها مواد خام، و17 في المائة مواد نصف مصنعة، والباقي في حدود 17 في المائة صنفت على أنها مواد مصنعة أو نهائية. بينما في حال الواردات فالهرم معكوس تماما، فواردات المملكة بلغت 541 مليار شكلت المواد المصنعة - النهائية - نسبة نحو 75 في المائة منها، بينما المواد نصف المصنعة 23 في المائة والمواد الخام - غالبا تستورد لأغراض استخدامها للصناعة - فشكلت 3 في المائة فقط، فلو عدنا بالزمن إلى الماضي قبل تأسيس صناعة البتروكيميكال لكان الوضع أكثر سوءا بكثير، فقرار استراتيجي مهم بتأسيس الصناعات البتروكيميكال له نتائج ضخمة نجني ثمارها اليوم بشكل مباشر عبر الوظائف والتصدير وغير مباشر عبر توفير الوظائف الكثيرة من العمليات المساندة والمترافقة مع هذه الصناعة.
ختاما هذه الأرقام تكشف حال الصناعة لدينا وحاجتنا إلى تغير هذه الأرقام تدريجيا مع الوقت، حيث إن العملية ليست سهلة أبدا وستواجه تحديات كثيرة جدا، ولعل من أهم المستهدفات مستقبلا الوصول بالصادرات غير النفطية إلى نسبة 50 في المائة من إجمالي الصادرات، وهذه نسبة صعبة لكن من الممكن تحقيقها مع وضع الخطط المناسبة والمستهدفات من الصناعات المناسبة لنا - فليس كل صناعة مناسبة لنا أو نستطيع المنافسة بها -، وكذلك أن تصل نسبة الصادرات من المواد المصنعة - النهائية - نسبة 40 في المائة على الأقل حتى عام 2030، هذه المستهدفات لو تحققت ستحقق - كنتيجة حتمية - مستهدفات اقتصادية كبرى منها تقليل فاتورة المشتريات للواردات، ورفع الاكتفاء الذاتي لكثير من الصناعات، وتوفير وظائف مباشرة وغير مباشرة كبيرة ومهمة للاقتصاد، ورفع القوة النوعية للاقتصاد السعودي عبر وجود صناعات متقدمة ومتطورة أكثر من صناعات المنبع، لكن يظل السؤال الأهم هنا هو ما الخطة الاستراتيجية للصناعات المحلية؟، أو ما خريطة الطريق لتحقيق هذه المستهدفات؟، وما الصناعات المناسبة لتوطينها ودعمها لتكبر وتنافس؟، ولعل هذا يكون موضوع مقال آخر.