اقتحام الهيدروجين عالم النقل الجوي
إلى حد بعيد يعد تخلص وسائل النقل وطرق إنتاج الكهرباء من الانبعاثات الكربونية أحد أكبر التحديات التي ستواجه البشرية لأعوام عديدة مقبلة. وهناك عديد من التقنيات التي تم استكشافها لتحقيق هذا الغرض، لكن حتى الآن لا شك أن البطاريات هي الأكثر نجاحا في تحدي النفط، وأن "تسلا" هي أنجح الشركات المنتجة للسيارات الكهربائية حتى يومنا هذا.
في أيلول (سبتمبر) 2020 أعلنت شركة إيرباص عزمها استبدال الوقود الأحفوري بحلول عام 2035، لكن عندما سئلت الشركة عن تقنية الوقود البديل المفضلة لديها كانت الإجابة هي تقنية وقود الهيدروجين، ما يعد شيئا غير متوقع تماما لصناعة الطيران.
كانت تقنية وقود الهيدروجين تلوح في الأفق منذ عقود ومع التطورات التقنية الحديثة قد تحصل أخيرا على فرصة لإثبات نفسها كأفضل وقود لمستقبل البشرية. ومع ذلك يظل كثير من الأسئلة حول هذه التقنية حتى الآن دون إجابة، ما يدفعنا إلى التساؤل عن الوصف الأمثل لهذا التحول الذي تخطط له "إيرباص" أهو تحول مجنون أم عبقري؟.
كان الأثر البيئي لصناعة الطيران دائما في دائرة الضوء، لكن الجهد الذي بذل لتقليل هذا الأثر قليل جدا. لا شك أن تقنيات التوربينات أصبحت أكثر كفاءة على مر الأعوام من حيث استهلاك الوقود، إلا أنه بمرور الوقت نشأ قلق مختلف، حيث حدث انخفاض كبير في تكاليف السفر الجوي إلى جانب تحسن الوضع الاقتصادي للطبقات العاملة المتوسطة حول العالم، وفجأة أصبح يمكن لأي شخص السفر إلى أي مكان. وقد كان لهذا النمو الاقتصادي تأثير هائل في الطيران لدرجة جعلت أنشطة الطيران تسهم بنحو 2 في المائة من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفي عام 2018 بلغ إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من صناعة الطيران 918 مليون طن وكانت نسبة 81 في المائة من ذلك تأتي من أنشطة نقل الركاب وحدها.
بغض النظر عن مقدار الوفر الذي يمكن تحقيقه في استهلاك الوقود عن طريق السفر الجوي، فإن جوهر المشكلة لا يزال قائما ومتمثلا في حرق الوقود الأحفوري، كما أن تقليل استهلاك الوقود باستخدام تقنيات أفضل دائما يقابله زيادة في الطلب على السفر الجوي، وللحيلولة دون ذلك يجب على صناعة الطيران أن تتحول إلى مصادر طاقة متجددة أو نظيفة، وحاليا هناك مرشحان رئيسان هما بطاريات الليثيوم أيون وخلايا وقود الهيدروجين.
وقد بدأت الطائرات الكهربائية تصبح حقيقة واقعة مع اتجاه كثير من الشركات حول العالم نحو الاستثمار بكثافة فيما يبدو أنه سيكون مستقبل النقل. مع ذلك تظل تقنية البطاريات في الأساس محدودة من نواح كثيرة، ما يفتح الأبواب أمام تقنية الهيدروجين. ووقود الطائرات الحالي هو وقود عديم اللون تبلغ كثافته 720 جراما لكل لتر عند درجة حرارة 15 مئوية، ويحتوي الكيلوجرام الواحد منه على طاقة نوعية 12420 واط / ساعة لكل كيلوجرام، في حين يبلغ إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من هذا الوقود 2.2 كيلوجرام لكل لتر. أما البطاريات فتبلغ طاقتها النوعية في الوقت الحاضر 250 واط / ساعة لكل كيلوجرام فقط، ورغم أن البطاريات تبدو في هذه المقارنة كمن حقق خسارة ساحقة، فإن المعيار الرئيس هنا هو الكفاءة، حيث يبلغ متوسط كفاءة الاحتراق الداخلي في السيارات 20 في المائة على الأكثر، ما يؤدي إلى خفض الطاقة النوعية القابلة للاستخدام من البنزين إلى 2480 واط / ساعة لكل كيلوجرام، وهذا يتيح للسيارات متوسطة الحجم قطع نحو 650 كيلومترا بخزان سعة 40 لترا من البنزين، في حين يبلغ مدى سيارة "تسلا" طراز موديل 3 فقط 520 كيلومترا لكل شحنة. ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن السيارات الكهربائية أكثر كفاءة من السيارات التي تعتمد على الاحتراق الداخلي بفارق كبير يصل إلى أكثر من 95 في المائة، ورغم وجود علاقة عكسية بين عدد الكيلومترات المقطوعة والوزن، فإن زيادة كثافة البطارية دائما يكون لها تأثير إيجابي في المدى المقطوع في حال ثبات وزنها الحالي. ولأنه من المتوقع أن تزيد سعة البطاريات بنسبة 50 على الأقل في الخمسة أعوام المقبلة، فستصبح السيارات الكهربائية في النهاية الاختيار الأفضل. وإذا استطعنا في يوم من الأيام تحقيق الحد الأقصى النظري للطاقة النوعية للبطاريات والبالغ 1400 واط ساعة لكل كيلوجرام، فسيصبح الوقود الأحفوري بالتأكيد شيئا من الماضي، لأنه لا يمكن قول الشيء نفسه عن سيارات الاحتراق الداخلي، التي تعتمد على تقنية ناضجة جدا، لدرجة أن أي تقدم جديد بها لن يضيف سوى قليل لا يذكر إلى كفاءة الوقود الإجمالية الحالية.
أما الهيدروجين فيقع في مكان ما في الوسط بين التقنيتين المذكورتين آنفا، حيث يحتوي الكيلوجرام الواحد من الهيدروجين السائل على طاقة نوعية تبلغ 40000 واط / ساعة لكل كيلوجرام ويشغل حجما مقداره 14.11 لترا فقط. لكن بدءا من عام 2020 أصبحت هناك ثلاث مشكلات رئيسة تحيط بالهيدروجين كوقود، أولها أساليب النقل والإنتاج والتخزين التي لا تزال في مهدها، لأن الطلب منخفض للغاية. وهذه المشكلات لها تأثير مباشر في السعر، حيث يبلغ سعر الكيلوجرام الواحد من الهيدروجين السائل في ولاية كاليفورنيا نحو 16.51 دولار. والمشكلة الثانية هي أن تقنية خلايا الوقود في أحسن الأحوال اليوم لا تستطيع تحويل سوى 35 في المائة من الهيدروجين، ما يقلل إجمالي الطاقة النوعية التي يمكن استخدامها إلى نحو 13650 واط / ساعة لكل كيلوجرام. وأخيرا تتمثل المشكلة الثالثة في استخدام البلاتين كمحفز للتفاعل، ورغم أن جميع السيارات المبيعة حاليا تحتوي على خمسة جرامات على الأقل من هذا العنصر، فإن خلايا الوقود تحتاج إلى عشرة أضعاف ذلك على الأقل. وفي نهاية هذه المقارنة يجب أن نذكر أنه في حالة الهيدروجين يلزمنا استخدام 5.66 كيلوجرام تشغل حجما يبلغ 80 لترا، وتبلغ تكلفة تعبئة السيارة ما يصل إلى 93.44 دولار مقابل 22.93 دولار حال التعبئة بالبنزين، وستة إلى 12 دولارا حال شحن سيارة "تسلا" طراز موديل 3 بالكامل. وبالنظر إلى هذه الأرقام يبدو أن شركة إيرباص قد اتخذت أكثر القرارات جنونا عندما قررت التحول إلى الهيدروجين مستقبلا. وإن كان الهيدروجين لا يصلح بعد للاستخدام واسع النطاق في المركبات الصغيرة، فإن دخوله عالم النقل الجوي هو قصة مختلفة تماما.