هزيمة الانقسام الاقتصادي في العالم «2 من 3»
للحديث عن مفهوم اقتصاد جديد وقواعد جديدة له، فإن الرد السهل هنا هو الإسراع برفع مستوى المهارات والتدريب بالتوازي مع تغيرات سوق العمل. لكن هناك من الأسباب المعقولة ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذه الخطوات وحدها لن تكفي. فستكون هناك حاجة إلى وضع برنامج شامل للحد من عدم المساواة في توزيع الدخل.
ويتعين أن يقر هذا البرنامج بداية بأن نموذج المنافسة التوازنية الذي يستخدمه المنتجون لتحقيق أقصى حد ممكن من الربح، ويحقق للمستهلكين أقصى حد من المنفعة، وتتحدد الأسعار في أسواق تنافسية تحقق تعادل العرض والطلب، الذي ظل يهمن على فكر خبراء الاقتصاد لما يزيد على قرن لا يقدم صورة جيدة للاقتصاد اليوم، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بفهم تزايد عدم المساواة أو حتى النمو المدفوع بالابتكار.
فنحن لدينا اقتصاد يقع تحت طائلة نفوذ السوق والاستغلال، وقواعد اللعبة مهمة، فقد اجتمعت عوامل ضعف القيود على قوة الشركات، وانكماش القوة التفاوضية للعاملين إلى أدنى حد، وتقلص القواعد التي تحكم استغلال المستهلكين والمقترضين والطلب والعاملين، فأدت معا إلى اقتصاد أضعف أداء تشوبه زيادة السعي لتحقيق الريع وزيادة عدم المساواة. فحقيقة نحن في حاجة إلى إعادة صياغة شاملة لقواعد الاقتصاد. على سبيل المثال، أي بحاجة إلى سياسات نقدية تركز بقدر أكبر على ضمان التوظيف الكامل لجميع الفئات ولا تقصر تركيزها على التضخم، وإلى قوانين إفلاس متوازنة بشكل أفضل، لتحل محل تلك التي أصبحت تفرط في مساندة الدائنين وأتاحت القدر اليسير من مساءلة المصرفيين الذين شاركوا في الإقراض الجائر، وإلى قوانين حوكمة الشركات التي تقر بأهمية جميع الأطراف المعنية، وليس المساهمين فحسب. والقواعد التي تحكم العولمة يجب ألا تقتصر على مجرد تحقيق مصالح الشركات، فيتعين حماية العاملين والبيئة. ويتعين أن تقوم تشريعات العمل بدور أفضل في حماية العاملين وتوسيع نطاق العمل الجماعي. لكن ذلك كله لن يحقق ما نحتاج إليه من مساواة وتضامن، في الأجل القصير على أقل تقدير.
وسيتعين علينا تحسين توزيع الدخل في السوق وكذلك إعادة توزيعه على حد سواء. وعلى عكس ما هو منتظر، فبعض الدول التي تسجل أعلى درجات عدم المساواة في توزيع الدخل المتحقق من السوق، مثل الولايات المتحدة، تطبق بالفعل نظم الضرائب التنازلية، ما يعني أن أصحاب أعلى مستويات الدخل يدفعون نسبة أصغر من دخلهم كضرائب مقارنة بالعاملين الأقل دخلا.
وعلى مدار العقد الماضي، أدرك صندوق النقد الدولي أهمية المساواة في تشجيع الأداء الاقتصادي الجيد "بما فيه النمو والاستقرار". ولا تلقي الأسواق في حد ذاتها بالآثار الأوسع من القرارات غير المركزية التي تفضي إلى المغالاة في الاقتراض بعملات أجنبية أو الإفراط في عدم المساواة. ففي فترة حكم الليبرالية الجديدة، لم يأبه أحد بمدى مساهمة السياسات "مثل تحرير الأسواق الرأسمالية والمالية" في زيادة التقلب وعدم المساواة، ولا بما أدت إليه التغيرات الأخرى في السياسات - مثل التحول من البرامج ذات المنافع المحددة إلى البرامج ذات المساهمات المحددة، أو من معاشات التقاعد العامة إلى الخاصة - من تعميق شعور الأفراد بعدم الأمان، وكذلك زيادة التقلب الاقتصادي الكلي، من حال إضعاف أدوات التثبيت التلقائي للاقتصاد.
وهذه القواعد هي التي تحدد اليوم أشكال كثير من جوانب ردود أفعال الاقتصادات في مواجهة كوفيد - 19، ففي بعض الدول شجعت هذه القواعد على قصر النظر وعدم المساواة، هما من سمات المجتمعات التي لم تتعامل مع كوفيد - 19 بشكل جيد. فلم تكن هذه الدول معدة بقدر كاف لمواجهة الجائحة، فسلاسل التوريد العالمية التي بنتها لم تكن على قدر كاف من الصلابة. وعندما تفشى فيروس كوفيد - 19 على سبيل المثال، لم تتمكن الشركات الأمريكية حتى من توريد ما يكفي من منتجات بسيطة مثل الكمامات والقفازات، فضلا عن منتجات أعقد مثل أدوات الفحص وأجهزة التنفس الاصطناعي. بينما كشفت الجائحة عن تفاوتات هائلة بين دول العالم، من المرجح أن تؤدي الجائحة ذاتها إلى زيادة هذه التفاوتات... يتبع.