فرص وخريطة تجارية جديدة
في كل مرة يسجل ويتلقى العالم دروسا وتجارب من الأزمات الاقتصادية التي ضربته خلال فترات سابقة، وأن فترة الأزمات تعد فرصة لميلاد شركات تصبح قيمتها بمليارات الدولارات، ولنا في الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم عام 2008 مثال جيد، فقد ظهرت خلال تلك الفترة وبعدها شركات ناجحة هي اليوم تقود المشهد الاقتصادي. إن الإغلاق الاقتصادي الذي تسبب فيه فيروس كورونا في كل أنحاء العالم حاليا، دون استثناء، غير خريطة النشاط التجاري في القطاعات كافة، ويتوقع كثيرون أن يتغير العالم إلى الأبد بعد الوباء، ما قد يعني مزيدا من الفرص لأصحاب المشاريع الذين لديهم أفكار للأدوات والخدمات التي يمكن أن تساعد الناس على التكيف مع الوضع الجديد في كل الاتجاهات.
ولم يعد هنا من شك في أن جائحة كورونا تسببت في تغييرات هيكلية في العرض والطلب الكلي على مستوى العالم كله، وجميع القطاعات الاقتصادية والتجارية والمالية تقريبا، وهذه التغيرات الهيكلية أسهمت بشكل قوي في حالة من عدم التوازن لأسباب عدة، ليس أقلها العودة غير المنتظمة للدول في فتح اقتصادها بين متعجلة ومتأنية وبين عاجزة حتى الآن عن العودة نتيجة مشكلات لوجستية في توزيع اللقاحات، إضافة إلى انتشار متحورات جيدة من الفيروس.
ومن الطبيعي أن تواجه الشركات تحديات كبيرة خلال فترات الأزمات الاقتصادية، لكن ما نتعلمه من الأزمات الاقتصادية السابقة أنها مثلما تصنع التحديات في السوق، فإنها بالطبع تصنع الفرص أيضا، فالأزمة تقوم على غربلة السوق - إن جاز التعبير - ومن لديه الحلول والقدرة على التكيف هو من يستطيع البقاء، وفي الوقت نفسه تترك فرصا ومساحات لمولد شركات جديدة.
ومن الأسباب أيضا، تلك التغيرات التي لمست فكر الموارد البشرية مع دخول الآلات الذكية بقوة وبسرعة لمجالات وحقول العمل المختلفة، والتنامي الكبير في استثمارات الذكاء الاصطناعي، كما أن العمل عن بعد تحول ليصبح ثقافة تنظيمية، والتفاعل الواسع بين التحول للآلة والعمل عن بعد عزز التوجه نحو استقبال العملاء أيضا وشجع التجارة الإلكترونية وتوسعت دائرتها وحدودها وزاد حجم الشركات في السوق.
في المقابل، لا بد أن نذكر هنا أن قطاع الشحن والدعم اللوجستي يواجه ضغطا شديدا، نظرا إلى تزاحم الشركات على الشراء، بينما لا توجد حاويات كافية، وهو ما عزز صناعة الحاويات بشكل غير مسبوق. ومع التغيرات الهيكلية الضخمة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، فإن الأسعار تستجيب بشكل تضخمي، وهو ما يعد مقلقا، وإن كانت المؤسسات الدولية غير قادرة على تحديد عمق مشكلة التضخم الحالية، وهل هي مؤقتة أو ستستمر وقتا أطول، فإن الأسعار تتجه إلى مزيد من الصعود في المدى القصير، ولذلك كله انعكاس على القوائم المالية لعديد من الشركات العالمية، التي بفضل الوضع الراهن حققت أرباحا قياسية، وكسبت أسهمها ارتفاعات تاريخية. وفي هذا الشأن، نشرت "الاقتصادية" تقريرا لفهم سلوك واتجاهات أسعار الأسهم في المستقبل، خاصة لتلك الشركات التي جاءت رياح الوباء على ما تشتهي سفنها.
إن التغيرات في مستويات الطلب نتيجة الظروف التي أفرزتها الجائحة، إما تغيرات هيكلية عميقة وإما قصيرة المدى، فالقطاعات التي تشهد تغيرات هيكلية عميقة ستقود إلى تدفق الاستثمارات طويلة الآجلة نحو هذه القطاعات، ذلك أن بقاء مستويات العرض عند وضعها الحالي يضمن للشركات أرباحا غير عادية، حتى المدى المتوسط، قبل أن تدخل شركات جديدة هذه القطاعات وتعزز من مستويات العرض. وفي هذه الفترة ستستمر أسهم هذه الشركات مهيمنة على أسواق الأسهم وتحقق قفزات سعرية كلما زاد التنافس للحصول على الأسهم التي قد تعد آمنة حتى لو لحين.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن أهم تلك القطاعات التي يمكن تصنيفها ضمن هذا المستوى، شركات الأدوية العالمية، فالهلع الذي أصاب المجتمعات من الجائحة، والتحورات التي يشهدها الفيروس، ومع احتمالات قوية لموجات متعددة في مناطق من العالم، فإن هذه الشركات ستستمر في الهيمنة على القطاعات ومصدر للأرباح.
وقد أشار تقرير لـ"الاقتصادية" بهذا الشأن إلى أنه من المتوقع أن يصل حجم سوق اللقاحات العالمية إلى 25 مليار دولار خلال ثلاثة أعوام، يشمل ذلك توزيع أكثر من 1.5 مليار لقاح خلال العام الجاري، فهناك شركات عملاقة لديها مبيعات متنوعة غير لقاح كورونا، مثل شركتي جونسون آند جونسون وفايزر، كما أن شركة موديرنا حققت مبيعات في أول ستة أشهر من 2021 تعادل نحو ثمانية أضعاف مبيعات 2020 بالكامل.
وبالمثل، في حجم عمق التغيرات الهيكلية ومستويات العرض والطلب، نجد شركات التقنية التي تقدم خدمات الحوسبة السحابية وتدعم في برامجها قطاع الرعاية الصحية والتعليم عن بعد، فشركة مثل مايكروسوفت ارتفعت مبيعاتها نحو 17 في المائة، وأرباحها ارتفعت 38 في المائة، وتصل قيمتها السوقية حاليا إلى نحو 2.2 تريليون دولار، وهي من الشركات التي لديها كثير من المنتجات التي ستفيد الشركة أعواما طويلة، وليس فقط أثناء أزمة كورونا.
وفي مقابل تلك القطاعات العريقة، أفرزت الجائحة قطاعات جديدة، ودفعت بها للمقدمة، وهنا يبرز قطاع التجارة الإلكترونية بشكل غير مسبوق، فقد استفادت شركات هذا القطاع من التغيرات في سلوك المشترين والمستهلكين، مع الدعم الكبير القادم من شركات المدفوعات الإلكترونية، فهذين القطاعين يدعم بعضهما بعضا، ما يضمن استمرار الزخم في الأرباح والمبيعات، وبالتالي أسعار أسهمها. وتعد شركة أمازون مثالا نموذجيا لذلك، حيث بلغت إيراداتها 180 مليار دولار في 2019، وارتفعت في 2020 إلى 386 مليار دولار، وما زالت تتواصل مبيعاتها، حيث بلغت مبيعات نصف 2021 نحو 222 مليار دولار. وجنبا إلى جنب شركة أمازون تظهر شركة المدفوعات الإلكترونية PayPal، كما أن البنوك الرقمية عموما تجد مساحة واسعة للعمل وتحقيق الأرباح، ما يشير إلى أن التغيرات في هذه القطاعات هي تغيرات مستدامة. وإذا كانت شركات مثل أمازون وPayPal حققت قفزة في المبيعات والأرباح بسبب الوضع المهمين قبل الأزمة، فإن التكيف السريع مع الظروف الجديدة سمح لشركات جديدة بالظهور، مثل شركة "بيندو أوديو" الصينية، التي تعد وافدا جديدا في قطاع التجارة الإلكترونية، فقد حققت ضعف مبيعات 2019 وارتفع سعر سهمها من نحو 20 دولارا ما قبل 2020 إلى 200 دولار بداية 2021.
هكذا تبدو صورة الأسواق مع التغيرات في مستويات العرض والطلب، فبينما ما زالت شركات السياحة والسفر والإيواء تعاني بشدة الخسائر، وصناعات مثل قطاع الملابس تعاني تغيرات في الطلب، فإن هناك آفاقا جديدة لشركات مهمشة ومتعثرة ولدت من رحم الأزمة. لكن لا تبدو أسواق المال متفائلة جدا ببقاء أسعارها على ما هي عليه، فمثلا شركة زووم، التي حققت إيرادات بقيمة 90 مليون دولار، تضاعف الرقم بقوة في العام المالي 2020 إلى 167 مليون دولار، وسجلت المبيعات لآخر أربعة فصول بالمليون دولار: 663، ثم 777، ثم 883، وأخيرا 956، وتضاعفت قيمتها السوقية بنحو ست مرات، لكنها في قطاع يجتاحه تدفق كبير من اللاعبين الجدد مع مشكلات كبيرة تواجه القطاع ليس أقلها الاختراقات للاجتماعات، ما يجعل مستقبل هذه الشركات مرهونا ببقاء الجائحة فقط.
وكمثال آخر، ظهرت شركة "شوبيفاي" الكندية، التي تقدم برامج وأدوات في عالم التجارة وحققت مبيعات في 2020 ضعف حجم مبيعات 2019، لكن - كما أشرنا - فإن هذا النمو السريع في المبيعات والأرباح يجذب المقتحمين الجدد لهذه القطاعات وتبقى مستويات الربحية معتمدة على قوة الطلب واستدامته، ولهذا فإن التقلبات في القطاعات الجديدة ستكون أكبر من غيرها، وأيضا عرضة لنوعية المخاطر المرتفعة.