4 سيناريوهات لمستقبل صناعة النقل البري العالمي بعد الجائحة .. التعافي يستغرق وقتا
عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية في أوائل 2020 أن فيروس كورونا بات مصنفا "جائحة" أو وباء عالميا، أخذت الدول في جميع أنحاء العالم تقريبا في إغلاق حدودها، وقيدت حركة وسائل النقل والسفر لاحتواء انتشار الفيروس، وأوجدت تلك السلسلة من الإجراءات معوقات أمام التجارة الدولية وبالطبع وسائل النقل.
ونظرا لأن تفشي المرض تسبب في حدوث اضطرابات في عمليات سلسلة التوريد، فقد أعيقت صناعات اللوجستيات والنقل بطرق مختلفة خاصة النقل البري التجاري.
يشير الاتحاد الدولي للنقل البري ومقره سويسرا إلى أن قطاع النقل البري التجاري بشقيه المتعلق بالبضائع والركاب، كان يحمل آفاقا واعدة قبل جائحة كورونا، فقد كان الطلب العالمي على النقل البري في ارتفاع، إذ أسهم النقل البري للسلع في نقل 20 تريليون طن من البضائع في 2015، وكان يتوقع أن تصل الحمولة الإجمالية للبضائع المنقولة برا إلى 31 تريليون طن في 2030، وأن ترتفع إلى 51 تريليون طن في 2050.
تلك التوقعات بالطبع تراجعت نتيجة تفشي وباء كورونا، حيث تعاني صناعة النقل البري التجاري موجة من الإفلاس، ضربت الصناعة العام الماضي، وسط توقعات بأن تتواصل تلك الموجة هذا العام أيضا، نتيجة الانخفاض الكبير في عائدات الكثير من شركات النقل البري التجاري.
ويقدر الاتحاد الدولي للنقل البري إجمالي الخسائر العالمية للقطاع هذا العام في مجال نقل السلع فقط بنحو 347 مليار دولار، وعلى الرغم من أن تلك الخسائر تقدر بنحو نصف خسائر العام الماضي حيث تكبد القطاع خسائر بـ679 مليار دولار، فإن هناك مشكلات أخرى مستفحلة لدى الشركات العاملة في النقل البري للبضائع من قبيل حالات الإعسار المتزايدة، خاصة وأن مؤشرات التدفق النقدي بلغت مستويات حرجة لدى القطاع، ويعد نقص السيولة المالية في قطاع نقل البضائع تحديدا واحدا من أبرز التحديات التي تواجهه حاليا نتيجة تفشي وباء كورونا.
ويعد النقل البري للبضائع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ أكبر الخاسرين عند مقارنته بأداء القطاع ذاته في المناطق الجغرافية الأخرى، إذ تراجع بنحو 20 في المائة محققا خسائر بلغت 379 مليار دولار، كانت من بينها خسائر صينية بنحو 131 مليار دولار، واحتلت القارة الأوروبية المرتبة الثانية بنسبة خسائر 20 في المائة أيضا أي ما يعادل 125 مليار دولار، بينما تعرض النقل البري للبضائع في أمريكا الشمالية لخسائر مالية بلغت 84 مليار دولار، وتحملت الولايات المتحدة منها 63 مليار دولار، أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن معدل الخسائر بلغ 22 في المائة، أي ما يقدر بـ23 مليار دولار.
لكن الخسائر التي تكبدها قطاع النقل البري على المستوى الدولي لا تقف عند حدود نقل البضائع، بل تمتد أيضا إلى خدمات نقل الركاب عبر الحافلات أو السياحة، حيث لا تزال حركة الحافلات والمركبات مقيدة بشدة، وتواجه احتمالية ضئيلة للعودة إلى مستويات التشغيل العادية التي سادت قبل الجائحة هذا العام على الأقل، وقدر الاتحاد العالمي للنقل البري خسائر الإيرادات في قطاع الركاب في النقل البري في 2021 بنحو 543 مليار دولار، بينما بلغت نسبة تسريح الموظفين في هذا القطاع نحو 30 في المائة على المستوى الدولي.
يقول لـ"الاقتصادية" ماري أرثر نائب المدير التنفيذي لفرع الاتحاد الدولي للنقل البري في المملكة المتحدة، "بسبب القيود الموضوعة على النقل البري لمواجهة الوباء والانكماش في الاقتصاد العالمي، تضرر أكثر من 3.5 مليون مشغل نقل بري حول العالم، ويتحملون على نحو متزايد مصاعب مالية، وهناك علامات مقلقة على مستقبل هذه الشركات والاقتصادات التي يخدمونها، وفي 2020 بلغت خسائر قطاع النقل البري التجاري بشقيه الخاص بالسلع والبضائع أو المتعلق بالأفراد ما تجاوز تريليون دولار، والمؤشرات المرتبطة بـ2021 مقلقة وترسم طريقا كئيبا أمامنا خاصة مع ارتفاع نسبة التخلف عن سداد الديون والإفلاس لشركات النقل البري".
يقدر قطاع كبير من الخبراء أن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى ثلاثة أعوام على الأقل للعودة إلى مستويات الإنتاج قبل الأزمة، والنقل البري هو شريان الحياة للاقتصادات والمجتمعات وبالطبع لسلاسل التوريد وشبكات التنقل، وإذا أخذ في الاعتبار أن أكثر من 80 في المائة من الأعمال التجارية العالمية يتم تنفيذها عبر النقل البري للسلع والأفراد، سندرك مدى اعتماد التعافي الاقتصادي والاجتماعي من وباء كورونا على قطاع النقل البري التجاري.
من هذا المنطلق يعتقد الخبراء أن التدخل الحكومي أمر ضروري لإنقاذ تلك الصناعة، وعلى الرغم من أن العديد من الحكومات لم يتردد في الإسراع بالتدخل لدعم القطاع، إلا أن التقييم العام لهذا التدخل لا يزال محل جدل.
الدكتور إيدي تيدور أستاذ اقتصادات النقل في جامعة سوث ويلز يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "تشير بعض عمليات المسح التي أجريت على 221 لمشغلي النقل البري للبضائع في ثماني دول في الأمريكتين وآسيا وأوروبا لتقييم تدابير الدعم المالي، إلى أن عددا قليلا من شركات النقل البري استفاد من الدعم المالي الحكومي".
ويضيف "أظهرت النتائج أن 19 في المائة فقط من الشركات كانت راضية عن حزم المساعدات الحكومية، وعدد قليل من الشركات شاهد دعما فعالا من حيث المنح النقدية التي ينظر إليها على أنها حاسمة في معالجتها لانخفاض السيولة، أو اتخاذ إجراء بشأن مرونة أقساط التأمين".
وبالفعل فإن البيانات الدولية المتاحة تشير إلى أن 18 في المائة فقط من شركات النقل البري للبضائع على مستوى العالم تلقت منحا مالية مباشرة من حكومتها، و20 في المائة من حكومات العالم عملت على خفض تكاليف التأمين على شركات النقل البري، و50 في المائة من الشركات تعتقد أن السلطات في بلدانها قامت بتخفيض الضرائب على شركات النقل البري.
لكن في ظل التحديات المتنامية التي تواجه قطاع النقل البري التجاري يصبح التساؤل الرئيس متعلقا بالسيناريوهات المحتملة أمام القطاع لمواجهة التعقيدات الراهنة وتأثيرها في النمو المستقبلي له.
في هذا السياق يقدم أرثر كلارك رئيس قسم التعاون الدولي في المجلس الأوروبي لسلامة النقل أربعة سيناريوهات مستقبلية أمام صناعة النقل البري التجاري.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "تمتد تلك السيناريوهات من التعاون إلى المنافسة وكل سيناريو سينعكس على التطور الداخلي للقطاع، وربما يكون السيناريو الأول مرتبطا بالنمو عبر العمل التعاوني، وهذا السيناريو سيسمح ببقاء الشكل العام للقطاع دون تغيير، ويسمح للقادة الحاليين والشركات الدولية المهيمنة على القطاع بالحفاظ على هيمنتها، وهذا ممكن عبر التحرك نحو مزيد من أحجام الشحن الموحدة وكذلك توحيد العلامات والأنظمة. السيناريو الثاني قد يؤدي لاهتزاز الأسواق نتيجة تنامي دور الوافدين الجدد من شركات ناشئة وأن يكون لهم دور أكبر تأثيرا، وهذا سيوجد تحديات متزايدة أمام اللاعبين المهيمنين على الصناعة".
ويتابع "السيناريو الثالث يتصف بالمنافسة المعقدة، وهنا سنجد أن التنافسية داخل القطاع ستتطور في اتجاهات مختلفة، بحيث يصبح العملاء والموردين أنفسهم لاعبين في سوق الخدمات اللوجستية، وتحديدا النقل البري، بمعنى آخر سيتنافس المصنعون ومنتجو السلع مع شركات النقل البري العالمية، بأن تنكون لهم أساطيل النقل الخاصة بهم. أما السيناريو الأخير فتعمل فيه الشركات المهيمنة بالاستيلاء على صغار اللاعبين أو الشركات الناشئة وهذا سيرسخ الطابع الاحتكاري في الأسواق".
لا شك أن قطاع النقل البري التجاري يمر الآن بمرحلة فاصلة من تطوره ويحتاج إلى وقت للتعافي، فتداعيات جائحة كورونا وعدم اليقين الجيو سياسي في العديد من مناطق العالم، تربك سلاسل التوريد العالمية وهي حجر الزاوية في التجارة الدولية، وتهدد معه صناعة النقل البري العالمي، وتلقي أمامها مجموعة من المصاعب والتحديات التي تتطلب مزيدا من التنسيق والتعاون بين الشركات الكبرى لفتح الطريق أمام المزيد من الابتكارات، عسى أن تسهم في التغلب على المصاعب التي تعيق تقدم القطاع مستقبلا.