طفرة نمو وتحديات حوكمة
الأسواق المالية هي مرآة لمؤشرات الاقتصاد العالمي ونموه، فهي مجمل قرارات المستثمرين حول العالم والمبنية على أساس أفضل تنبؤاتهم بالمستقبل، وإذا أردنا الدقة في العبارات فإنها تعكس أفضل التنبؤات بشأن التدفقات النقدية وحجم العوائد في المستقبل، وهذا الأمر يعكس الحقائق فقط، بغض النظر عن الآمال الاقتصادية التي يطلقها صناع القرار الاقتصادي في العالم. ورغم كل هذا الزخم والتقدم الذي شهدته الأسواق الناشئة طوال العقد الماضي، والحديث الصاخب عنها في كل مناسبة، إلا أن الأسواق لا تأبه بذلك بقدر اهتمامها بقدرة الشركات في أي اقتصاد على دفع التدفقات النقدية في وقتها، وهذا له علاقة مباشرة بمستويات تطبيق مفهوم الحوكمة وأنظمتها وعدالة القوائم المالية والشفافية.
"الاقتصادية" نشرت تحليلا يؤكد هذه الحقيقة حيث تبين أن الأسهم الأمريكية الممتازة قد حققت عوائد إجمالية 356 في المائة على مدى الأعوام العشرة الماضية، متجاوزة عائدا بلغ 188 في المائة للأسهم الأوروبية خلال الفترة نفسها، بينما حقق مؤشر إم. إس. سي. آي. للأسواق الناشئة عوائد بنسبة 66 في المائة فقط، ما دفع بعض المحللين إلى وصفه بأنه "عقد ضائع" للأسواق الناشئة. وإذا كانت عبارة "عقد ضائع" تعد قاسية مقارنة بحجم الجهود التي بذلت من أجل فتح الأسواق الناشئة للمستثمرين، إلا أن الأمور تسير على هذا النحو لأسباب عدة أشار إليها عديد من كبار التنفيذيين في العالم حيث قال رئيس الأبحاث العالمية وكبير الاستراتيجيين في مصرف ستاندرد تشارترد: "إن التحديات التي تواجه الأسواق الناشئة على المدى الطويل تشمل العوامل البيئية والاجتماعية وقضايا الحوكمة، وهذه العوامل أدت مجتمعة مع تباطؤ العولمة إلى انخفاض أسهم الأسواق الناشئة بنحو 40 في المائة مقارنة بالأسهم الأمريكية".
القضايا ذات الصلة بالحوكمة وما يمتلكه مجلس الإدارة من صلاحيات تحدد وتؤثر في حالة وحركة أسعار الأسهم في الأسوق الناشئة ومستقبلها وتطورها، وقد أثبتت أبحاث كثيرة صدرت من جهات متخصصة هذه المسألة، فيما بينت تقارير "الاقتصادية" أن الإجراءات التنظيمية المتشددة في الصين على سبيل المثال، التي استهدفت صناعات التكنولوجيا المالية والتعليم، قد أثرت في حجم الاستثمارات هناك وبالتالي الأسعار فانخفض مؤشر إم. إس. سي. آي. للأسواق الناشئة 1.4 في المائة هذا العام بسبب قوة وزن الشركات الصينية في المؤشر.
وتعتمد قدرة الشركات في الأسواق الناشئة على تحقيق نمو كبير ومستدام في التدفقات النقدية على حجم الاستثمارات التي تتدفق إليها، ولذلك فإن العمل الدؤوب من الحكومات على إصلاح الأنظمة الاقتصادية لها وتشجيع الاستثمار الأجنبي ومعالجة البنية التنافسية الداخلية، وتعزيز مستويات الحوكمة والإفصاح، سيعزز من حجم الاستثمارات الداخلة، وهذا سينعكس على مستقبل اقتصاد السوق المالية.
وفي هذا الصدد تعد السوق السعودية أنموذجا يحتذى للأسواق الناشئة التي استطاعت أن تحقق معدلات نمو كبيرة في وقت وجيز رغم الجائحة، وهذا النجاح تم أساسا وفقا للإصلاحات الشاملة التي تم تنفيذها في الاقتصاد الوطني، وشملت إصلاحات في الحوكمة، والتشريعات، التي أسهمت جميعها في ارتفاع رخص الاستثمارات الأجنبية الجديدة في السعودية بنسبة 54 في المائة خلال عام 2019 مقارنة بعدد الرخص التي تم إصدارها في عام 2018، وبإجمالي 1,130 شركة جديدة، محققة بذلك إقبالا غير مسبوق على مستوى الاستثمارات الأجنبية خلال الأعوام العشرة الماضية.
وفي عام 2020 ورغم الجائحة التي تسببت في إغلاق الاقتصاد العالمي استمر الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى السعودية في الارتفاع بنسبة 9.5 في المائة وهو ما يعادل 173.3 مليار ريال، ليبلغ إجمالي الاستثمارات تريليوني ريال بنهاية 2020 وهو أعلى مستوى تاريخي، مقابل 1.833 تريليون ريال، وهذا يعود بعد فضل الله إلى التنفيذ الدقيق لبرامج الرؤية. هذا الارتفاع الملحوظ في حجم الاستثمارات الأجنبية كان كفيلا بتحفيز السوق المالية، وتعزيز نشاطها، ومن الاتجاه الصاعد المستمر منذ آذار (مارس) 2020، المدعوم بأرباح الشركات.
وقد سجل المؤشر العام للسوق أفضل أداء بين كبرى البورصات العالمية، وتفوق على أداء مؤشري "إم. إس. سي. آي." العالمي وكذلك للأسواق الناشئة، حيث صعد الأول بنحو 14.1 في المائة منذ العام الجاري. وفي حين تراجع مؤشر "إم. إس. سي. آي" للأسواق الناشئة بنحو 1.4 في المائة صعد المؤشر السعودي بنسبة بنحو 26.7 في المائة خلال الفترة نفسها .
والخلاصة نجد أن الأسواق المالية الناشئة هي أسواق قائمة شهدت طفرة من النمو والتطور في الحجم، وأثبتت وجودها، وتمتلك قدرات تؤهلها لمواصلة النمو، والتطور، والاستمرار في رفع درجة كفاءتها، وفعالية أدائها الاقتصادي، لتتحول إلى مركز جذب لرؤوس الأموال المحلية، والدولية، من خلال العوائد المرتفعة، التي حققتها.