عقلية الباحث في يوميات طالب
ترتبط درجة الدكتوراه بالبحث العلمي، ويتطلب الحصول عليها تقديم أطروحة تتضمن إضافة معرفية موثقة في الموضوع المطروح. ولأن هذه الدرجة تحمل مضمونا بحثيا، لذلك يطلق عليها عادة، وفي مختلف أنحاء العالم، لقب "دكتوراه الفلسفة"، بصرف النظر عن موضوع إضافتها البحثية المعرفية. وكان كثير من الجامعات في الماضي، وربما بعضها حاليا أيضا، يمنح الدرجة بذكر الدرجة، ودون ذكر الموضوع. والمنطق في ذلك هو أن صاحب الدرجة أثبت قدرته على إجراء بحث قاد إلى تقديم إضافة معرفية، أي أنه بات مؤهلا كباحث يعرف كيف يؤسس لبحثه، وكيف يوجهه نحو التوصل إلى نتائج متميزة وموثوقة، وأنه بذلك اكتسب "العقلية البحثية" التي يستحق عليها الدرجة.
على أساس ما سبق كان منح الدرجة يعتبر أن القدرة على البحث بنجاح، أو بالأحرى القدرة على اكتساب العقلية البحثية، هي أساس الدرجة العلمية، أما الموضوع فيأتي بعد ذلك. والسبب أن من اكتسب العقلية البحثية، واستطاع تقديم بحث ناجح، يستطيع ذلك مرات أخرى في المستقبل، حتى إن اختلف الموضوع المطروح. عقلية البحث المطلوبة إذا، لا تتقيد بالضرورة بالموضوع، بل إنها عقلية لمختلف موضوعات الحياة، وفي مواجهة مختلف تحدياتها. هذه العقلية هي التي ميزت صاحب اليوميات المطروحة في هذا المقال في تسجيله يومياته، عندما كان طالبا للدكتوراه، يتدرب في إحدى الشركات الكبيرة، شركة BBN، التي كان لها دور مهم في التأسيس للإنترنت وعالمها السيبراني.
اليوميات المطروحة تعود إلى 2008، ونشرت في كتاب في 2013، والطالب تخرج دكتورا في الفلسفة في 2009، من إحدى أهم الجامعات الأمريكية، جامعة كارنيجي ــ ميلون، كما تولى مسؤوليات مختلفة منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من مرور الزمن، إلا أن اليوميات تستحق الطرح لأن فيها مثالا لعقلية بحثية أثبتت قدرتها على نيل الدكتوراه في موضوع مهم هو أمن الشبكات الحاسوبية، وحافظت أيضا على نظرتها البحثية إلى مختلف شؤون الحياة. فما تطرحه اليوميات ينقلنا بين هذه الشؤون بنظرة عميقة تسبر جوانبها المختلفة، وتتمتع أيضا برشاقة في الصياغة وجاذبية العرض.
تقع اليوميات في كتاب من 150 صفحة، أي أنه لا يمكن الإحاطة بها في هذا المقال، وإنما يمكن التركيز على بعض ملامحها الرئيسة. ولعل الملاحظة المهمة على هذه اليوميات هي أن صاحبها كان لا يكتفي بالنظر إلى ظواهر الأمور، سواء في الأعمال أو الأشخاص، بل كان يبحث فيما وراء الأعمال، وفي جذور الأشخاص. فعندما التحق للتدريب بشركة BBN لم يكتف بما هو معروف عنها من المشاركة في التأسيس للإنترنت في سبعينيات القرن الـ 20، بل عرف أنها أُسست في 1948، وأن مشاريعها الأولى في الأربعينيات، شملت تصميم النظام الصوتي لقاعة اجتماعات الأمم المتحدة، وأن أحرف اسمها الثلاثة ترتبط بالأحرف الأولى لأسماء مؤسسيها.
وفي بحثه عن جذور الأشخاص، عرف أن بين أهم علماء الشركة عالم لبناني اسمه جان مخول، وأن جان مغرم بالطعام اللبناني على الرغم من العقود التي عاشها في أمريكا، وأن لديه في مكتبه ملصقا للآية الكريمة «إن الله مع الصابرين»، على الرغم من أنه لم يكن مسلما. وتعرف صاحب اليوميات أيضا على جذور مديره في الشركة، ديفيد لابسلي، فقد كان والده أستراليا، وأمه ماليزية، وزوجته أرمنية نشأت في لبنان. كما تعرف على الجذور البرتغالية للمشرف على أطروحته جوزيه مورا.
ولعل النظرة البحثية الأهم التي ذكرها صاحب اليوميات تلك التي برزت عندما تعرف على جون زنكي أحد العاملين في الشركة. فقد عاد بالاسم زنكي إلى تاريخ الغزو الصليبي لبلاد الشام، والحكام من آل زنكي الذين تصدوا له، عماد الدين الزنكي وابنه نور الدين الزنكي. وعلى الرغم من جهل جون بتاريخ هؤلاء، إلا أن صاحب اليوميات بحث واكتشف أن إحدى الأساطير الصليبية تذكر أن أم عماد الدين الزنكي كانت من أصل نمساوي، وهو الأصل الذي ينتمي إليه جون، فهل ورود اسم زنكي جاء نتيجة لذلك؟ لا أحد لديه يقين بصحة ذلك أو خطئه. ثم كان هناك أمر آخر بشأن الأسماء، فمع أسماء عماد الدين، ونور الدين، ورد اسم ملا نصر الدين. وتبين أن لهذا الاسم جانبا أسطوريا، حيث يمثل النسخة الفارسية لاسم جحا العربي.
وفي اليوميات ملاحظة على قول أحد باحثي الشركة، كرايج بارتريدج، إن "الدكاترة الجدد ضيقو الأفق". فسبب هذه الملاحظة أن الحاصلين على درجة الدكتوراه لديهم معلومات كثيرة، لكن في مجال ضيق، هو المجال الذي قدموا فيه إضافتهم المعرفية. والمطلوب منهم، في الحياة العملية، رؤية أوسع للأمور تتجاوز حدود أطروحاتهم. وفي هذا المجال، أورد صاحب اليوميات قولا للباحث يستحق الطرح. والقول هو "إن للعلم ثلاثة أشبار"، من يجتاز الأول يشعر بالفخر وربما الكبر، ومن يجتاز الثاني يكتسب التواضع، ثم من يجتاز الثالث يدرك أنه لا يعرف شيئا. ونحن بالطبع نؤمن بالآية الكريمة «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا». ولا شك أن على أصحاب الدكتوراه ألا يقيدوا أنفسهم بموضوعات أطروحاتهم فقط، بل عليهم أن يسعوا إلى البحث في الموضوعات المطلوبة، التي يحتاج إليها المجتمع، لأنهم مؤهلون للبحث، وقادرون على اكتساب المعارف الجديدة وتقديم إضافات جديدة.
بقي أخيرا أن نعرف بصاحب اليوميات، الذي لم يكتف باستخدام العقلية البحثية لإعداد أطروحته، بل استخدمها أيضا في فهمه للآخرين وتعامله الإنساني معهم. إنه الدكتور باسل بن عبدالله السدحان.
ومن دواعي اعتزازي القول إنه كان من طلابي المتميزين في جامعة الملك سعود. ونظرا لنشاطه وسعة نظرته للأمور من حوله، فقد تولى منصب وكيل، ثم عميد القبول والتسجيل في الجامعة أعواما عدة. وهو حاليا الأمين العام المساعد لمؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة"، حيث يهتم، مع نخبة العاملين في المؤسسة، برعاية الموهوبين وتنمية قدراتهم كي يكونوا مصدر عطاء متميز يسهم في تنمية المجتمع ويعمل على تحقيق طموحاته المنشودة.