لكي يستعيد المزارعون نشاطهم
لست في حاجة إلى مزيد من الحديث عن أهمية الزراعة لدولة بحجم السعودية مساحة وعدد سكان وأهمية استراتيجية ومقصدا لكل المسلمين لأداء الحج والعمرة، الأمر الذي يتطلب الغذاء بكل درجاته الأساسية والثانوية.
خطت السعودية ولا تزال، خطوات أذهلت الكثير في النهضة الزراعية، وكانت ملء سمع العالم وبصره ومحط إعجاب خبراء التنمية في مقدرة المزارع والمستثمر السعودي في المجال الزراعي على استيعاب التقنية الزراعية الحديثة وما تشهده من تحديثات تسهم في الإنتاج بكفاءة عالية في كل المجالات الزراعية من الحبوب والخضار والفواكه والألبان واللحوم والدواجن والأسماك والمشروبات وجميع منتجات التصنيع الغذائي لهذه المنتجات، وأصبح المنتج الزراعي والغذائي السعودي الخيار الأول للمستهلك السعودي والمقيم، وأصبحت المنتجات الزراعية والغذائية السعودية ذات سمعة في معظم الدول المجاورة، بل دخلت الأسواق الدولية مثل التمور والأسماك والربيان والعصائر والألبان ومنتجاتها، وغيرها.
وحظيت الزراعة في المملكة بتبني واحتضان ورعاية الدولة لها، ممثلة في وزارة البيئة والمياه والزراعة ودعم الصندوق الزراعي للتنمية، فحصل المزارعون والشركات الزراعية على قروض طويلة الأمد تصل إلى مدة 12 عاما، وحجم تمويل كبير يصل إلى 75 في المائة من رؤوس الأموال اللازمة لإنشائها، وكذلك قروض تشغيلية لمتطلبات التشغيل وإعانات سخية وبعضها غير مستردة، إلى غير ذلك من أوجه الدعم والتسهيل وعدم وجود ضرائب على المعدات أو مدخلات الإنتاج حتى الأول من يناير 2018، حيث طبقت ضريبة على السلع والخدمات بنسبة 5 في المائة، ثم رفعها إلى 15 في المائة في الأول من يوليو 2020، ويشمل ذلك مدخلات الإنتاج الزراعي.
ليس سرا أن النهضة الزراعية الكبيرة التي شهدتها المملكة وتجاوز حجم الإنفاق فيها ما يقارب 60 مليار ريال وحققت الاكتفاء الذاتي من القمح ومعظم المنتجات الزراعية قد تعرضت بعد ذلك إلى هزة عنيفة بنهاية الثمانينيات الميلادية وبداية التسعينيات، بدأ فيها مؤشر للوضع المائي حسب رأي بعض المختصين، خاصة عندما تعرضت الزراعة ليس فقط للتوقف عن النمو، بل اتخذت خطا متسارعا للانخفاض، نظرا إلى استقلال قطاع المياه عن وزارة الزراعة والمياه آنذاك، ليصبح وزارة تبنت سياسة التقنين المائي وضرورة كبح جماح النهضة الزراعية في الوقت الذي توسعت فيه الشركات الزراعية والمزارعين الفاعلين وتحملهم حجما كبيرا من القروض، وتبينت مظاهر هذا الكبح في شكلها الأوضح في اتخاذ قرار بإيقاف زراعة القمح الذي وصل إلى خمسة ملايين طن سنويا ووضع جدول زمني للتخفيض التدريجي للإنتاج بدءا من 2008، ليصل إلى مرحلة الصفر 2015. وتلى ذلك قرار إيقاف زراعة الأعلاف كذلك 2018 عندما تحولت الشركات الزراعية وبعض المزارعين إلى زراعتها للوفاء بالتزاماتهم تجاه الصندوق الزراعي، فيما يقدم لصناعتهم الزراعية من قرارات وتشريعات، وانخفضت قيم حيازتهم الزراعية، واهتزت ثقتهم، ورحل كثير من عمالتهم المدربة، وأصبح المزارع يعمل بالحد الأدنى للإنتاج للمحافظة على بقاء مزرعته، وكثير منهم خرج من هذا النشاط.
وحتى عندما تم العدول عن قرار إيقاف القمح قبل ثلاثة أعوام ومطالبة المزارعين بتوريد منتجاتهم للمؤسسة العامة للحبوب، كانت الاستجابة حتى الآن ضعيفة جدا بحجة انخفاض سعر الشراء الذي حدد بـ44.1 ريال/ للكيلو أو1440 ريالا للطن من جهة، وارتفاع سعر الأسمدة 34 في المائة لسماد اليوريا، وكذلك رفع تكاليف الديزل، بحيث إن الزيادة التي قدمتها المؤسسة العامة للحبوب للشراء أفقدتها معناها في ظل زيادة الأسمدة ومدخلات الإنتاج الأخرى، كالبذور المحسنة والمبيدات، ما يجعل المزارع يجد جدوى في زراعة القمح وتقديمه للمؤسسة.
وهناك سبب يهمس به المزارعون بين بعضهم بعضا، وهو أنه مع زراعتهم للقمح بهذه التكاليف والصرف على مدخلاته وتكاليف إنتاجه من مواردهم المالية المرهقة أصلا وتقديمه للمؤسسة، لن يحصلوا على قيمة محصولهم، لأنها تخصم من القروض المستحقة عليهم طيلة الأعوام التي تذبذبت فيها التشريعات الزراعية بين الدعم والتحجيم والسماح والمنع! وأن الدولة لم تلزم المزارع بشروط الصندوق الزراعي وفق التوجيهات العليا، لأنها شروط تحصيل قاسية، فالمهلة وإعادة الجدولة والمرونة التي يبديها يتفادى التوريد للمؤسسة.
إن الأحداث الروسية - الأوكرانية ألقت بظلالها على مسرح الأحداث وقفزت أسعار القمح إلى 518 دولارا من 280 دولارا للطن قبل الأحداث، أي نحو ريالين للكيلو "فوب" من ميناء التصدير!
بعد استراتيجي وأمن غذائي يطول رغيف الخبز أو الحد الأدنى للمادة الغذائية الأساسية، الذي يجب ألا يخضع إنتاج القمح محليا لمعادلة الجدوى الاقتصادية.
لذلك، أرى أنه لا بد من استهداف إنتاج 80 في المائة على الأقل من احتياجات المملكة من القمح محليا، وتأجيل القروض المستحقة على مزارعي القمح لخمسة أعوام مقبلة، بحيث يحصل المزارع على ثمن إنتاجه دون خصم، وإعفاء مدخلات الإنتاج من الرسوم أو رفع قيمة الشراء من المزارع بما يغطي هذه التكاليف.