توثيق الاهتمام
من منا لم يعرف الروائية الإنجليزية أجاثا كريستي أو يقرأ أحد كتاباتها البوليسية التي تحولت لاحقا إلى أعمال سينمائية ومسرحية خالدة، واشتهرت بكتابتها 66 عملا أدرجتها موسوعة جينيس للأرقام القياسية كالروائية الأفضل بيعا على الإطلاق، ولقد باعت نحو ملياري نسخة، بعشرات اللغات وتشير ممتلكاتها إلى أن أعمالها تحل في المرتبة الثالثة في تصنيف الكتب الأكثر انتشارا في العالم. لماذا أستشهد بهذه الكاتبة البارعة؟ لأن هناك معتقدا انتشر أخيرا بأن عهد التدوين قد دنا وولى، وأن القلم "لم يعد يوكل عيش" ولكن الواقع يقول العكس تماما، فالكتابة الإبداعية ستكون ضمن أهم المهارات خلال العشرة أعوام المقبلة، وستظل خالدة طالما كان البشر خالدين.
إن مهارة التدوين الإبداعي ملكة تكتسب بالممارسة وتنضج بالقراءة وتحترف عندما تترجم قصصا معاشة وتجارب مخاضة تغمس في تفاصيل اللاشعور وتغوص في وجدان الكاتب، وتلهب حماسه وتملؤه شغفا، لينبع إبداعا نصيا في منتهي الجمال والجاذبية.
يلوح في أفق التجربة كتاب فريد من نوعه شهير في زمانه وزمان غيره وهو كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" للرحالة الشهير ابن بطوطة الذي جاب الديار في 30 عاما، قطع أكثر من 120 ألف كيلو متر متنقلا من طنجة في أقصى المغرب العربي وصولا إلى بكين في أقصى الشرق آنذاك، وفي كل موضع يحط فيه يقرأ الغرائب قبل العوائد ويصف الأكل والشرب واللبس والثقافة وأسلوب الحياة بأسلوب ممزوج بتجربة معاشة، حيث لم يكتف بالوصف الخارجي بل بالشعوب وسرد عديد من الحكايات المشوقة يستفيض في الحديث عن كل شيء، بدءا من مداخل المدن ومخارجها مرورا بالطبائع التي جعلته من رواد أدب الرحلات.
إن وراء شهرة تدوينة ابن بطوطة اليتيمة هي إعادة صياغة فن الرحلات والتعمق في مناطق غير معروفة وتجارب جديدة ومشاركتها الآخرين من خلال الكتاب الذي أصبح أحد أعلام التدوين في العالم، فهو لم يقدم معلومة مفيدة، فحسب بل أصبح مرجعا تاريخيا وثقافيا وحضاريا، وبالمناسبة هو الوحيد في القرن الـ14 الميلادي الذي وثق زيارته إلى اليمامة "منطقة الرياض"، وقال: "مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار، يسكنها طوائف من العرب، وأكثرهم من بني حنيفة"، وما زال هذا النص يحتفظ بوهجه منذ 700 عام، وبكل اختصار فإذا كنت تريد كتابة شيء مذهل فما عليك سوى القيام بشيء مثير للاهتمام ثم توثيقه والكتابة عنه.