تنمية القدرات البشرية .. صفات المواطن المنافس عالميا

يسعى البرنامج إلى إعداد مواطن منافس عالميا. تظهر هذه الجملة، المعبرة عن هدف طموح، في مطلع بند وصف برنامج تنمية القدرات البشرية المطروح ضمن الوثيقة الإعلامية لهذا البرنامج. وعندما نقول إعداد مواطن منافس عالميا فإن تساؤلات عدة تبرز أمامنا، يحاول هذا المقال، والمقال الذي يليه مناقشتها، في ضوء مضامين البرنامج المبينة في وثيقته من جهة، وفي ضوء برامج أخرى حول العالم تهتم بإعداد الإنسان للمستقبل من جهة أخرى. فإعداد الإنسان وتنمية قدراته هما المتطلب الأول لنجاح الأمم، لأن الإنسان هو العنصر الحي القادر على العطاء، بما منحه الله تعالى من إمكانات شخصية، وأحاطه من مناهل في الطبيعة حوله. تجدر الإشارة، في هذا الإطار، إلى أن نجاح الأمم يتم بجهود أبنائها، كما أن هذا النجاح يوفر لهم حياة تحمل هدفا ومعنى، ورفاهية واستقرارا، وآفاقا مستقبلية واعدة للأجيال المتجددة.
تقول التساؤلات حول المواطن المنافس عالميا: مَن هذا المواطن؟ وما الصفات التي يجب أن يكتسبها كي يتمتع بالقدرات المطلوبة؟ ولماذا نريده أن يكتسب هذه القدرات؟ ثم كيف نستطيع إعداده وبناء قدراته؟ ويطرح هذا المقال مناقشة تحاول الإجابة عن التساؤلين الأول والثاني، ويترك التساؤلين الآخرين للمقال المقبل بإذن الله.
إذا بدأنا بمناقشة التساؤل الأول حول مَن هذا المواطن المنافس عالميا؟ فلعلنا نجد في مضمون هذا التساؤل أن الإنسان المستهدف هو المواطن، وأن التميز المطلوب من هذا المواطن هو القدرة على المنافسة، وأن ميدان هذا التميز هو العالم بأسره. المواطن بالطبع هو ابن الوطن المتمتع بخيراته، والمسؤول عن حمايته، وتفعيل إمكاناته، وتطوره ونجاحه، وعن زخم استدامة هذا النجاح. وهو لذلك الإنسان المستهدف بالتميز المنشود، وهذا التميز هو أن يكون قادرا على المنافسة. وتتمثل قدرته هذه في تمكنه من العطاء الذي يحمل قيمة متميزة في شتى مجالات الحياة، خصوصا في المجالات ذات الأهمية المتوافقة مع العصر، والمتوافقة أيضا مع كل الإمكانات الخاصة التي يتمتع بها الوطن، وكذلك مع المتطلبات الخاصة التي يحتاج إليها.
ومن تحديد الإنسان المستهدف، وبيان التميز المنشود، نصل إلى ميدان هذا التميز، ألا وهو العالم بأسره. فالعالم ومنذ بداية الثورة الصناعية الأولى في القرن الـ 18 يزداد تقاربا ويتعمق تفاعلا، حتى وصل اليوم إلى ما يعبر عنه اليوم بالقول إنه بات قرية صغيرة. والمنافسة كبيرة في هذه القرية الصغيرة، وكذلك التعاون أيضا. وكثيرا ما يكون التنافس عبر التعاون بين مجموعات تنافس مجموعات متعاونة أخرى. ويحتاج الإنسان في بيئة القرية العالمية الصغيرة، وهي العالم بأسره، إلى التميز في صفات خاصة ترتبط بشؤون المعرفة، والمهارات المختلفة، والمتابعة الحثيثة لما يجري حول العالم. فبذلك يكون الإنسان المستهدف قادرا، ليس فقط على المنافسة مع الآخرين، بل على التعاون معهم أيضا عند الحاجة، ومن موقع الندية، إن لم يكن من موقع التميز والتفوق.
وننتقل إلى مناقشة التساؤل الثاني، وهو المتعلق بالصفات المطلوبة في المواطن المنافس عالميا، ولعلنا نضيف هنا، وكذلك القادر على التعاون الإيجابي عالميا أيضا. في هذا المجال، نعود إلى وثيقة برنامج تنمية القدرات البشرية، حيث تنقسم الصفات التي يجب أن يكتسبها المواطن المستهدف إلى قسمين رئيسين. يهتم القسم الأول بالصفات التي تمنحه القدرات الأساسية، ولهذه الصفات ثلاثة أبعاد رئيسة هي: بعد القيم والسلوكيات، وبعد المهارات الأساسية، إضافة إلى بعد مهارات المستقبل. أما القسم الثاني من الصفات فيتضمن بعدا واحدا يتمثل في التأهيل المعرفي الذي يمنح الإنسان قدرات متطورة تمكنه من مواكبة احتياجات سوق العمل ومتطلباتها. وسنلقي مزيدا من الضوء، فيما يلي، حول كل من أبعاد الصفات هذه.
إذا بدأنا بالصفات المطلوبة، في إطار بعد القيم والسلوكيات، لوجدنا أن في هذه الصفات بناء لشخصية الإنسان. فهي تشمل جانب الانتماء والوطنية، حيث يعزز ذلك شعور الإنسان بالتميز، ويجعله حاملا لمسؤولية واسعة لا ترتبط بشخصه فقط، بل بمجتمعه وأمته وثقافته أيضا. وتتضمن صفات القيم والسلوكيات أيضا جوانب الإتقان والانضباط والعزيمة والمثابرة والقدرة على التكيف، وهي صفات تعزز ثقافة العمل الجاد وحسن الأداء. ثم هناك صفات الوسطية والتسامح، والإيجابية والمرونة، وهي صفات تناسب التفاعل مع الآخرين سواء في إطار التعاون الإيجابي، أو في المنافسة الموضوعية العادلة.
وإذا انتقلنا إلى الصفات الخاصة بالمهارات الأساسية، لوجدنا فيها جوانب القراءة والكتابة، والحساب، إضافة إلى المهارات الرقمية اللازمة للتعامل مع العالم السيبراني الذي بات التعامل عبره جزءا من حياة الإنسان المهنية والاجتماعية في شتى بقاع الأرض. وتحدثنا عن هذه المهارات في مقال نشر على هذه الصفحة بتاريخ 17 شباط (فبراير) 2022. وتضمن المقال طرحا لتطور متطلبات المهارات الأساسية، التي تمثل أهلية الإنسان في التعامل مع متطلبات الحياة. وشمل ذلك ما حددته "اليونيسكو" بهذا الشأن عبر الزمن، ومنذ عام 1958، فالمهارات الأساسية المطلوبة تأخذ طريقها إلى التصاعد مع تزايد تأثير التطور المعرفي في شؤون الحياة المختلفة.
ونصل إلى الصفات المرتبطة بمهارات المستقبل، فهذه المهارات تستند بالطبع إلى المهارات الأساسية، والقيم والسلوكيات، لتضيف إليها صفات ترتبط بقضايا التفكير وجوانبه التحليلية والإبداعية وعطائه الاستباقي الذي يعزز القدرة على المنافسة. وهناك أيضا في صفات مهارات المستقبل المهارات الاجتماعية والعاطفية، مثل مهارات الذكاء العاطفي التي تضبط سلوك الإنسان في تعامله مع ذاته والآخرين، ومثل الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية، والعمل التطوعي، ويضاف إلى ذلك مهارات التعامل المالي، فضلا عن مهارات اللياقة البدنية التي تحفظ صحة الإنسان وتعزز قدراته.
وتأتي في الختام، صفات التأهيل المعرفي في المجالات الحيوية المناسبة لمتطلبات العصر وسوق العمل محليا ودوليا. تشمل هذه المجالات موضوعات الهندسة، والتقنية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، وغيرها. ولا شك أن صفات القيم والسلوكيات، وصفات المهارات الأساسية، تمثل البنية اللازمة لصفات التأهيل المعرفي، حيث يؤدي تجمعها معا إلى بروز المواطن المنافس عالميا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي