تنمية القدرات البشرية .. إعداد المواطن المنافس عالميا

لا شك أن برنامج تنمية الموارد البشرية يتحمل مسؤولية كبرى في مسيرة التنمية، لأن هذا البرنامج مسؤول عن إعداد الإنسان، والإنسان هو العنصر الحي في هذه المسيرة، وهو القادر على العطاء، وإدارة الأعمال وإنجازها بفاعلية وكفاءة. فالإنسان محور التنمية، وغايتها ووسيلتها أيضا. فقد وهب الله تعالى الإنسان إمكانات متميزة، وأحاطه بمناهل الطبيعة وكنوزها الكامنة، وترك له أمر الاكتشاف، والإبداع، والابتكار، والعمل. من هذا المنطلق، تبرز أهمية البرنامج وتوجهاته المستقبلية نحو إعداد مواطن منافس عالميا، يمتلك القدرات التي يستطيع من خلالها التعامل مع معطيات العصر، ويكون أيضا مصدرا استباقيا للابتكار والتجدد.
وطرحنا في المقال السابق أربعة تساؤلات حول المواطن المنافس عالميا. وشملت هذه التساؤلات: من هذا المواطن؟ وما الصفات التي يجب أن يكتسبها كي يتمتع بالقدرات المطلوبة؟ ولماذا نريده أن يكتسب هذه القدرات؟ ثم كيف نستطيع إعداده وبناء قدراته؟ وطرح المقال السابق مناقشة حاولت الإجابة عن التساؤلين الأولين، وبقي علينا في هذا المقال محاولة الإجابة عن التساؤلين الآخرين، وهما تساؤل لماذا، وكيف.
إذا بدأنا بطرح تساؤل لماذا نريد من المواطن أن يكون منافسا عالميا؟ فلعل الدليل على ذلك يقول إن هذا المواطن مطلوب من أجل دور تنموي مأمول، عليه أن يقوم به. وينبع هذا الدور من مسؤولية المواطن تجاه وطنه، وبالتالي تجاه ذاته ومجتمعه والأجيال المتجددة من بعده. وتتمثل أدوات هذا الدور في القدرة على تقديم عطاء يحمل قيمة متميزة قادرة على التنافس مع ما يقدمه الآخرون، وقادرة على تبادل المعطيات معهم على مسرح الحياة، بل قادرة أيضا على تقديم معطيات استباقية متميزة تفيد الجميع. وتأتي موضوعات هذا الدور لتركز على مختلف مجالات الحياة، في إطار أولويات مواكبة للعصر ومتوافقة مع إمكانات المجتمع واحتياجاته. ويضاف إلى ذلك حقيقة أن ميدان هذا الدور واسع يشمل العالم بأسره.
وننتقل إلى التساؤل الخاص بـ "كيف" نستطيع إعداد المواطن المنافس عالميا؟ في هذا المجال تطرح وثيقة البرنامج ثلاثة محاور رئيسة متكاملة للإعداد: محور يرتبط بالتعليم، ويقضي بتطوير أساس تعليمي مرن ومتين. ومحور يختص بسوق العمل، ويهتم بقضايا سوق العمل في المستقبل على المستويين المحلي والدولي. ثم محور لإتاحة فرص التعلم مدى الحياة، كي تتجدد معارف الإنسان ومهاراته دون انقطاع. وفي دعم هذه المحاور يطرح البرنامج موضوع وجود منظومة تمكين وطنية مستدامة قادرة على مواكبة التغيرات المستقبلية لتنمية القدرات البشرية. وسنلقي فيما يلي مزيدا من الضوء على كل من المحاور الثلاثة ومنظومة التمكين المطلوبة، وذلك في إطار ما تطرحه وثيقة البرنامج.
يشمل محور تطوير أساس تعليمي مرن ومتين، التوجه نحو مهمات عدة تسهم معا في التطوير المنشود. وتركز هذه المهمات على الاهتمام بالطفل عبر التوسع في مدارس رياض الأطفال مع الحرص على تحسين جودتها. كما تسعى أيضا إلى توفير مسارات مرنة ومتنوعة في التعليم الأساسي، لأن في ذلك استجابة لكل من ميول الناشئة من جهة، واحتياجات المجتمع من جهة ثانية. وفي هذا الإطار، يضاف إلى ذلك، توسيع نطاق برامج تنمية القدرات الخاصة للطلاب الموهوبين، فضلا أيضا عن الاهتمام بذوي الإعاقة ودمجهم في المؤسسات التعليمية.
وتشمل مهمات تطوير الأساس التعليمي، إضافة إلى ما سبق، التوجه نحو تعزيز مبدأ المساءلة في نظام التعليم الأساسي، حيث يتم ربط الأفكار العلمية بالأدلة اللازمة، وفي هذا الإطار هناك مسألة تصميم تجارب تعليمية مبتكرة وعملية، ومناهج تواكب العصر. ثم هناك أيضا مهمات لتفعيل جودة العملية التعليمية، تشمل: توفير معلمين وقادة مدارس مؤهلين، وتأمين إرشاد وتمكين للطلاب، وكذلك إشراك فاعل للأسرة في العملية التعليمية.
وننتقل إلى محور سوق العمل المستقبلي، على المستويين المحلي والدولي، الذي يشمل عددا من المهمات. وتتضمن هذه المهمات توفير نظام تعليم عال وتعليم وتدريب مهني وتقني يتمتع بمعايير جودة مرتفعة، إلى جانب توفير برامج تلبي احتياجات سوق العمل يقدمها هذا النظام، ويضاف إلى ذلك إشراك جهات التوظيف في تصميم وحدات تعليمية وتدريبية، وفي تنفيذها أيضا. وتشمل مهمات هذا المحور كذلك توفير أساتذة ومدربين بخبرات مناسبة، وتأمين قادة متمكنين للمؤسسات التعليمية، وتأمين إرشاد مهني للطلاب. وهناك بعد ذلك مهمة تركز على تعزيز مهارات ريادة الأعمال عبر تجارب عملية في هذا المجال.
ونأتي إلى محور التعلم مدى الحياة الذي يتضمن كسابقيه مهمات خاصة به. تشمل هذه المهمات تصميم برامج لتطوير المهارات وإعادة التأهيل، إلى جانب إيجاد أنظمة اعتماد لها. وتتضمن المهمات أيضا تعزيز أنشطة ريادة الأعمال والتعلم مدى الحياة، وإشراك القطاع الخاص والمجتمع، فضلا أيضا عن توفير التوجيه والإرشاد الأكاديمي في إطار النشاطات المطروحة.
ونصل إلى منظومة التمكين التي تحرص على إشراك القطاع الخاص والمؤسسات غير الربحية في المهمات المطروحة، وتوفير البيانات المفيدة للمهمات وتوجهاتها، وتعزيز الدراسات المستقبلية بشأن العرض والطلب، إضافة إلى التأكيد على القيم والسلوك والاهتمام باللغة العربية.
ولعل من المفيد هنا إبراز حقيقة أن لدى العالم من حولنا برامج تماثل، لكنها لا تطابق، برنامج تنمية القدرات البشرية، وتسعى إلى تعزيز قدرات المنافسة على مستوى العالم. ومن أبرز أمثلة هذه البرامج "مشروع مستقبل التعليم والمهارات" الذي أطلقته "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" عام 2015. وتحدثنا عن هذا المشروع، و"بوصلة التعلم 2030" التي طرحت، في مقال سابق نشر على هذه الصفحة بتاريخ 12 آذار (مارس) 2020.
وفي ختام هذا المقال، لعل من المناسب القول إن نجاح أي برنامج، مهما طرح من أفكار جميلة، يكمن أساسا في العمل على تنفيذه. وأتيحت لي أخيرا فرصة لقاء مع نخبة من العاملين في مكتب البرنامج بحضور رئيسه المهندس أنس المديفر. وأذكر هذا الأمر لأنني رأيت في هذا النخبة، ليس فقط الإمكانات، بل الحماس، والعقلية المرنة والنامية اللازمة لتفعيل التنفيذ المأمول، على أفضل وجه ممكن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي