مؤشرات الركود الأمريكي تومض بـ «الأحمر» .. قوة التعافي مهددة بانتكاسة

مؤشرات الركود الأمريكي تومض بـ «الأحمر» .. قوة التعافي مهددة بانتكاسة
أضيف للاقتصاد 432 ألف وظيفة في مارس وانخفض معدل البطالة إلى 3.6 في المائة.

في الـ 24 من فبراير الماضي، عبرت الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية، ومنذ ذلك التاريخ، فإن تداعياته المختلفة ونتائجه السياسية والاقتصادية تهيمن على وسائل الإعلام الدولية، وإذا كان ارتفاع معدلات التضخم العالمي سبق نسبيا اندلاع الحرب، فما لا شك فيه أن تواصل الأعمال القتالية لما يزيد على شهرين، صعد بالموجة التضخمية وجعلها أكثر ارتفاعا وقسوة على مستويات المعيشة.
الحديث عن التضخم تواصل في الأسابيع الأخيرة، لكن أضيف إليه حديث آخر، وهو الانتقال من مرحلة التنبؤات لدى بعض الخبراء إلى مرحلة اليقين، وانصب الحديث الجديد على أن التضخم قد يترافق هذه المرة مع ركود اقتصادي، خاصة في الولايات المتحدة.
المخاوف المتزايدة بإمكانية دخول الاقتصاد الأمريكي في مرحلة ركود في المستقبل المنظور، تعود في جزء منها إلى التاريخ، فالتضخم المرتفع والبطالة المنخفضة كلاهما "تاريخيا" يشيران إلى بدء دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة من الركود خلال فترة تراوح من عام إلى عامين.
فمنذ خمسينيات القرن الماضي، وكلما تجاوزت معدلات التضخم في الولايات المتحدة 4 في المائة، وكانت البطالة أقل من 5 في المائة، دخل الاقتصاد الأمريكي في ركود خلال عامين، فهل يتكرر المشهد مجددا؟ والأهم كيف سينعكس ذلك على الاقتصاد العالمي؟
حتى الآن لا تزال الآراء متضاربة وغير محسومة بين الخبراء بشأن الركود الذي يتوقع أن يضرب الاقتصاد الأمريكي، وإذا كان هناك قبول عام بحقيقة تعرض الاقتصاد الأمريكي حاليا لموجة تضخمية هي الأعنف منذ عقود، فلا يوجد اتفاق عام بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة تتجه إلى ركود اقتصادي أم تضخم مصحوب بركود، فالصورة لا تبدو واضحة المعالم بشكل قاطع.
ويبدو السبب الجوهري في تلك الحيرة، أنه وفقا لعديد من المقاييس، فإن الأداء الاقتصادي الأمريكي يبدو جيدا، فخلال الأسابيع الماضية استعادت الولايات المتحدة أكثر من 90 في المائة من الوظائف المفقودة في الأسابيع الأولى من تفشي وباء كورونا، كما أن وتيرة التوظيف متسارعة، وفي مارس الماضي أضيف للاقتصاد 432 ألف وظيفة جديدة، كما انخفض معدل البطالة إلى 3.6 في المائة، أي أعلى بقليل من مستوى ما قبل الجائحة، الذي كان في الحد ذاته أدنى مستوى له في 50 عاما.
مع هذا، فان بعض الخبراء يرون أن القوة الرائعة للتعافي تحمل في طياتها بذور تدميرها، وأن مؤشرات الركود التقليدية تومض باللون الأحمر، خاصة في سوق السندات، إذ انخفض الفارق بين عوائد السندات الحكومية الأمريكية بين عامين و10 أعوام إلى 0.2 في المائة فقط، وهذه علامة تحذير حمراء قوية، كما أن مؤشرات غياب الثقة لدى الشركات الصغيرة متزايدة.
وفي استطلاع حديث للرأي أجري في الأسبوع الأخير من مارس، أشار 81 في المائة ممن استطلعت آراؤهم إلى أن الاقتصاد الأمريكي من المرجح أن يشهد ركودا هذا العام، لكن الأكثر مدعاة للقلق الشكوك التي يعرب عنها بعض المسؤولين السابقين في الفيدرالي الأمريكي، إضافة إلى عدم ثقة بعض كبار الأثرياء والمستثمرين في الولايات المتحدة بقدرة القيادة الحالية للفيدرالي الأمريكي على تهدئة الاقتصاد، وخفض التضخم، دون زيادة البطالة والتسبب في الركود، خاصة مع حالة عدم اليقين التي تهيمن على الاقتصاد الأمريكي والعالمي في آن واحد.
يعد وليام دادلي الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك، من أبرز الخبراء المحذرين من ركود الاقتصاد الأمريكي، حيث يعده "حتميا".
وهنا يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور اليكس سمارتر أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن، إن "المحذرين من ركود الاقتصاد الأمريكي، ومن بينهم وليام دادلي، يجادلون بأنه إذا بدأ الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية في نهاية اجتماعه المقبل في الرابع من مايو، فربما يكون قادرا على كبح جماح التضخم بالضغط على الاقتصاد، إلا أن تلك هي الزيادة الثانية في أسعار الفائدة من سبع مخطط لها، وإذا واصل الفيدرالي تلك السياسات، فإنه سيكون عدوانيا تجاه النمو بما يسبب الركود".
وخلال الأيام الماضية، ازدادت حدة المخاوف من اتجاه الاقتصاد الأمريكي إلى الركود بعد أن كشفت الإحصاءات الرسمية عن انكماشه في الربع الأول من هذا العام، فقد أعلنت وزارة التجارة الأمريكية أن التراجع في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 1.4 في المائة كمعدل سنوي، ما يمثل انعكاسا حادا لمعدل النمو السنوي الذي بلغ في الربع الأخير من 2021 نحو 6.9 في المائة.
وبذلك يكون الربع الأول من هذا العام هو الأضعف منذ 2020، عندما أدى وباء كورونا والإغلاق المرتبط به إلى ركود عميق في الاقتصاد الأمريكي حينها، لكنه كان ركودا لم يدم طويلا.
مع هذا يرى جوليان بورجر الخبير المصرفي، أنه من غير المرجح أن تغير تلك البيانات خطط الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة بسرعة هذا العام.
وذكر بورجر لـ"الاقتصادية"، أن "الطلب الخاص نما في الربع الأول بمعدل سنوي 3.7 في المائة، وتلك نسبة أعلى بكثير من معدل النمو البالغ 1.8 في المائة الذي يتوقعه الاحتياطي الفيدرالي للاقتصاد الكلي على الأمد الطويل، كما أن الأسهم الأمريكية ارتفعت بحدة مع وجود أسهم شركات التكنولوجيا في المقدمة، خاصة بعدما حققت منصة ميتا، الشركة الأم لفيسبوك أرباحا قوية على الرغم من ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة، ومن ثم فإن صانعي القرار في الفيدرالي الأمريكي يرون أن الاقتصاد الأمريكي يمكنه تحمل أسعار الفائدة المرتفعة، وأن السيناريو الأسوأ سيكون عودة النمو، ولكن بشكل متواضع في الربع الثاني من هذا العام، ويرجع ذلك جزئيا إلى استمرار المستهلكين والشركات في الإنفاق".
ويواصل قائلا، "مع هذا، فإن القناعة السائدة لدى الفيدرالي الأمريكي أن التضخم المرتفع هو الخطر الاقتصادي الرئيس، فهو يقوض القدرة الشرائية وثقة المستهلكين، ويدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى مزيد من التشدد المالي، هذا التشدد المالي منبعه أن الأزمة الأوكرانية ستؤدي إلى زيادة أخرى في التضخم على المدى القريب، كما أن دوامة الأجور والأسعار بدأت بالفعل تشكل تهديدا دائما لاستقرار الأسعار".
تلك الدوامة تحديدا هي التي تدفع الخبراء إلى توقع حدوث انكماش في الاقتصاد الأمريكي، وتبلغ توقعات حدوث ركود في اقتصاد الولايات المتحدة هذا العام 15 في المائة، و50 في المائة من الآن حتى نهاية العام المقبل، فالعمال يحصلون الآن على أجور أعلى لمواكبة ارتفاع الأسعار، وتدفع تلك الأجور الأعلى الشركات إلى رفع الأسعار أكثر، ومن ثم فإن البنك المركزي سيرفع أسعار الفائدة بما يكفي لإيجاد حالة من الركود لكسر ديناميكية التضخم.
يروج المسؤولون في الفيدرالي الأمريكي حاليا لمصطلح "الهبوط الناعم" بحيث يكون لديهم القدرة على كبح جماح التضخم دون التسبب في ركود، فالاقتصاد من وجهة نظرهم في وضع جيد يمكنه تحمل التشدد المالي في ضوء معدلات البطالة التي تقترب من أدنى مستوياتها القياسية، كما أن الدخول تتزايد باطراد.
لكن روبيني ماتيوس الباحث في الاقتصاد الأمريكي، يرى أن الفيدرالي الأمريكي يسير الآن على حبل مشدود، وكل أسبوع يمر يزداد شد هذا الحبل والاهتزازات الناجمة عن السير عليه، فخطر التضخم المصحوب بركود اقتصادي بات من وجهة نظره خطرا حقيقيا.
وقال لـ"الاقتصادية"، إن "مشكلة التضخم الذي يواجه الاحتياطي الفيدرالي، مشكلة كبيرة، ومن غير المرجح أن يتم حلها دون تباطؤ اقتصادي ملحوظ، وعموما فإن التوليفة الناجمة عن ارتفاع الأجور وتأخر رفع معدلات الفائدة، والصدمات الناتجة عن العرض ومشكلات سلاسل التوريد، تعني أن الركود في العامين المقبلين سيكون مؤكدا وأكثر ترجيحا".
لكن هل يمكن أن يؤثر الركود الاقتصادي إذا ما ضرب الولايات المتحدة، في الاقتصاد العالمي؟
من جانبها، تستبعد الدكتورة جانا هويسر أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة بلفاست، أن يؤثر الركود أو الركود التضخمي في الولايات المتحدة على الاقتصاد الدولي بشكل حاد، وإن كانت لا تنفي أنه سيكون له تداعياته.
وأوضحت لـ"الاقتصادية"، أن "الآليات الخاصة بتأثير الركود الأمريكي في الاقتصاد الدولي من زاوية الاقتصاد الحقيقي، أي إنتاج السلع والخدمات أقل مما كان عليه الوضع في عقود وأعوام سابقة، فالاقتصاد الصيني والدور الذي يلعبه في الإنتاج الصناعي العالمي، وكذلك نمو القدرات التصنيعية في عديد من الاقتصادات الناشئة، تضعف من إمكانية تأثر الاقتصاد الدولي بالحالة الإنتاجية في الولايات المتحدة".
وأضاف، "لكن مع هذا يمكن أن تؤثر السياسة المالية الأمريكية عبر تحريك أسعار الفائدة صعودا وهبوطا، وكذلك التقلبات في أسعار الأسهم والسندات الأمريكية في الاقتصاد الدولي عبر نظرية الدومينو، بحيث تنتقل الأوضاع السائدة في الولايات المتحدة، سواء كانت ركودا أم تضخما أم ركودا تضخميا إلى الاقتصادات الأخرى".

الأكثر قراءة