المركبات ذاتية القيادة والبعد الدفاعي والاستثماري

لعل من الابتكارات الإلكترونية الحديثة والنوعية، التي أصبحت واقعا ملموسا وليس خيالا مسموعا، ابتكار المركبات ذاتية القيادة Autonomous Vehicles: AVs، التي تعد من الابتكارات النوعية المهمة، خصوصا عندما نشاهد التسابق المحتد بين الشركات الكبرى لبناء هذه المركبات ذاتية القيادة لعالم استهلاكي سريع التغير بتغير التقنيات والأنظمة والتكنولوجيا المتطورة بشكل مذهل جدا وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، ذلك يقودنا إلى البحث في هذا المجال، خصوصا أن مثل هذه التقنيات الإلكترونية الإبداعية أصبح لها تأثير واضح في جميع مناحي الحياة، ليس ذلك فقط، وإنما ذات أثر وبعد اقتصادي ودفاعي، وهذا ما سأستعرضه من خلال هذا المقال الذي سيشمل: التعريف بهذه التقنية بشكل عام، ومستقبلها، وبعضا من مكوناتها الإلكترونية، والشركات والجهات المطورة لها، وكيفية العمل على الاستفادة من مثل هذه الابتكارات في تطوير القوة الدفاعية والاقتصادية وتحقيق ريادة مستدامة في ذلك.
يمكن تعريف المركبات ذاتية القيادة، بأنها تلك التي تكون قادرة على تشغيل نفسها وأداء الوظائف الضرورية دون أي تدخل بشري، عن طريق قدرتها على الإحساس بمحيطها، وتستخدم نظام قيادة مؤتمتة بالكامل يسمح لها بذلك، وهناك عدة مستويات مختلفة من هذه الأتمتة، تبدأ بوجود نظام متقدم لمساعدة قائد المركبة Advanced Driver Assistance System: ADAS، وتتطور إلى وجود نظام قيادة متقدم Advanced Driving System: ADS الذي يقوم بدور القائد الآلي للمركبة، وفي الوقت نفسه يمكن استعادة السيطرة بالتدخل البشري. ويأتي المستوى الأعلى للأتمتة الكاملة، وهو الذي يكون فيه نظام ADS للمركبة قادرا على أداء جميع مهام القيادة بشكل مستقل. وتشير الدراسات إلى أنه قريبا سيتم تمكين هذه الأتمتة الكاملة من خلال تطبيق تقنية 5G، التي ستسمح للمركبات بالتواصل؛ ليس فقط مع بعضها بعضا، لكن أيضا مع إشارات المرور واللافتات حتى الطرق نفسها، في حال المركبات الأرضية، وعموما هي تعتمد على عديد من التقنيات، مثل تقنية التحكم في تثبيت السرعة تلقائيا Adaptive Cruise Control: ACC، للتأكد من أن المركبة تحافظ على مسافة آمنة من المركبات التي أمامها، كما تعتمد على المعلومات التي يتم الحصول عليها باستخدام أجهزة الاستشعار الموجودة في المركبة وتتم معالجتها وإرسالها كتعليمات إلى المشغلات الموجودة في المركبة، التي تتحكم في الإجراءات، مثل التوجيه والتسارع والتوقف.
ولا شك أن ابتكار تقنية المركبات ذاتية القيادة في مختلف أنواعها البرية والجوية والبحرية مر بمراحل متعددة من الاختبارات والتجارب، فعلى سبيل المثال، رحلة البحث عن المركبات ذاتية القيادة البرية بدأت منذ 1920 بمشاركة عدة جهات من شركات وجامعات ومراكز بحثية، منها - على سبيل المثال - في الولايات المتحدة مثل شركة Chandler Motor Car وشركة General Motors، وشركة Google وشركة Tesla وجامعة ولايه أوهيو Ohio State University وجامعة ستانفورد Stanford University، وجامعة إلينوي في أوربانا University of Illinois at Urbana، وجامعة ميشيجان University of Michigan، ووكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة Defence Advanced Research Projects Agency: DARPA، ومن الشركات والجامعات خارج أمريكا، كتلك التي في ألمانيا واليابان وغيرهما مثل شركة BMW وMercedes-Benz وVolkswagen وAudi وNissan وToyota، وجامعة Free University of Berlin، وغيرها. يتبين لنا من خلال هذا التاريخ الطويل من التطوير لهذه التقنية، المستقبل الواعد لها وفوائدها على الجانب المجتمعي، حيث ستزيد معدلات السلامة على الطرق، وتقلل نسبة الازدحام والحوادث المرورية ومعدل الوفيات، ونسبة التلوث أثناء التنقل، إضافة إلى توفير الوقت والجهد. وبالنسبة إلى الجانب العسكري سيؤدي إدخال مثل هذه التقنيات للميادين العسكرية، إلى تقليل التكاليف والإصابات والوفيات. وتحدثت في مقال سابق عن ذلك، خصوصا عن الحروب الجديدة أو الجيوش المسيرة التي لا يتدخل فيها العنصر البشري إطلاقا.
يستثمر كثير من الدول في مختلف أنحاء العالم في البنية التحتية لتكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة، بل تتنافس في ذلك، ونجد أن أكبر شركات الدفاع، مثل شركة Lockheed Martin، وشركة Northrop Grumman، وشركة BAE Systems، تعمل وبشكل كبير في هذا المجال، ولديها كثير من المشاريع الدفاعية، خصوصا في إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence: AI، واستخدام عديد من المستشعرات الحساسة مثل 3D LiDAR sensors، ومجسات المدى بالموجات فوق الصوتية Ultrasonic Range Sensors، وأنظمة الملاحة العالمية عبر الأقمار الاصطناعية Global Navigation Satellite System: GNSS، والكاميرات والرادارات وغيرها، حيث بلغ الاستثمار العالمي بالفعل أكثر من 200 مليار دولار. وبدراسة بسيطة عن حجم السوق العالمية لهذه التقنية، نجد أن بعض الدراسات يشير إلى أن حجم السوق يقدر بنحو 94.43 مليار دولار في 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى نحو 1808.44 مليار دولار بحلول 2030، كذلك أن ينمو بمعدل نمو سنوي مركب CAGR يبلغ 38.8 في المائة.
وما أعلنه الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، أخيرا، فيما يخص التطلعات والأولويات الوطنية لقطاع البحث والتطوير والابتكار، يؤكد اهتمام الحكومة بهذا المجال، وذلك لتحقيق التنافسية والريادة والصدارة على مستوى العالم، حيث سيصل الإنفاق السنوي على ذلك 2.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2040، وسيسهم ذلك في تنويع الاقتصاد الوطني، وكون الأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار ستستند إلى أربع أولويات، منها الريادة في الطاقة والصناعة، وتشمل إنتاج صناعات متقدمة تقنيا وذات قيمة عالية، وأولوية اقتصاديات المستقبل وتشمل التقنيات الرقمية. لذا أرى أن توجيه المراكز البحثية الوطنية منها والخاصة والجامعات، للبحث والتطوير في مجال الابتكارات النوعية بمجالاتها المختلفة، ومنها تقنية المركبات ذاتية القيادة، سواء كانت المدنية تحت إشراف هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، أو الدفاعية منها تحت إشراف الهيئة العامة للتطوير الدفاعي، وأن يتم العمل على تصنيع هذه التقنيات محليا بإشراف الهيئة العامة للصناعات العسكرية، وغيرها من الجهات التصنيعية، كل ذلك في حلقة تكاملية متقنة سيحقق - بإذن الله - جميع تطلعات وأهداف القيادة السعودية في الوصول إلى الريادة والتميز والصدارة المستحقة لهذا الوطن المعطاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي