التوازنات المفقودة
أحد أهم أركان الفكر الاقتصادي البحث عن التوازنات. وتعد هدف موضوعي لمعرفة مدى قرب الحالة عن المطلوب لكي نتمكن من قياس العلاج.
كل حالة من عدم التوازن في القضايا الكبيرة لا تكون حالة اقتصادية بحتة، لأن طبيعة هذه القضايا في ميدان الاقتصاد السياسي وبالتالي قابلة للتسييس، ودور الإعلام للتعليم والتضليل وتقليل دور العناصر الموضوعية من ذلك الطرف أو ذاك.
يشهد العالم عدة حالات من اللاتوازن أغلبها في حالة سائلة تنتظر تجاذبات في ظاهرها سياسية ولو أن جذورها اقتصادية. أناقش ثلاث حالات كأمثلة على انعدام التوازنات.
من هذه الحالات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كان هناك توازن مستقر بدأ في السبعينيات واستمر في الوصول إلى مدارات أعلى في كل عدة أعوام قليلة، إلى أن وصل اعتماد ألمانيا، أهم اقتصاد أوروبي، إلى 40 في المائة ولبعض الدول الأوروبية أقل وبعضها أكثر. جاء الموقف السياسي من الحرب بمقاطعة أوروبية شجعت روسيا على ابتزاز أوروبا، خاصة أن الشتاء ليس بعيدا عدا ارتفاع الأسعار ودور الطاقة في الركود التضخمي الذي بدأ يسيطر على المشهد الأوروبي، واختلاط الحالة مع المكابرة ضد الوقود الأحفوري. حالة مركبة من اللاتوازنات التي يصعب أن ترجع إلى مدارها قبل الحرب. في الأخير سيجد الاقتصاد بما في ذلك اقتصادات الطاقة توازنا جديدا، لكن تصعب قراءته الآن لكن من تبعاته تقليل الاعتماد الأوروبي على روسيا، وارتفاع أسعار الطاقة للعامة، وقبول التناقضات بين الطاقة التقليدية والمتجددة لأعوام حتى يتضح نموذج جديد.
حاليا يمر العالم بحالة تضخم مؤثرة لم تصل هذه المستويات في الدول الغربية منذ بداية الثمانينيات، فضلا عن دول متوسطة الحجم والمستوى التنموي بنسب عالية جدا مثل تركيا والأرجنتين، هذا غير دول لم تستطع مقاومة الانهيار مثل سريلانكا وغيرها مقبل. الإشكالية - في نظري - خاصة حين نركز على الدول المتقدمة والمستقرة، مثل دول الخليج، في الفجوة بين ما يذكر عن أرقام التضخم التي في أعلى مستوى وصلت 9 في المائة وبين التغير في تكلفة المعيشة. نسبة التضخم تقيس نسبة التغير في الأسعار، ولذلك يعبر عن اهتمام العامة بمستوى المعيشة، لكن نسبة التضخم لا تعكس تكلفة المعيشة مثل العلاقة بين أسعار المنازل ومستوى دخولهم، فمثلا ارتفع مضاعف سعر المنزل المتوسط إلى الدخل السنوي، وكذلك تكلفة التعليم والخدمات الصحية، مثل أسعار الأدوية، وليست هذه التوجهات بعيدة عنا، ولذلك تعاني الطبقة الوسطى في دول كثيرة. هناك حالة من عدم التوازن في قياس التضخم وتكلفة المعيشة. ربما أحد الأسباب نقص الاستثمارات قياسا على GDP في أغلب الدول الغنية منذ الألفية على الرغم من الفوائد والطاقة المنخفضة تاريخيا.
وأخيرا، هناك حالة من عدم التوازن بين أداء الاقتصاد الأمريكي، خاصة حجم العجز في الميزان التجاري والميزانية، إلى حد فقدان السيطرة على الدين العام، ومع هذا أسعار الفائدة عند أدنى مستوى تاريخي والدولار في صعود، فضلا عن حالة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي والخوف من النجم الصيني. طبعا هناك تفنيد حول بعض هذه النقاط، لكن ربما يوافق كثير أن هناك حالة من عدم التوازن.
اخترت أمثلة يختلط فيها الاقتصادي مع السياسي والاجتماعي من ناحية وقلة حيلة علم الاقتصاد عن قياس حتى فهم بعض هذه الظواهر من ناحية أخرى، وطبيعة التغير المجتمعي من ناحية أخرى. فحالة اللاتوازن تستمر تبحث عن توازن جديد ربما في مستوى أعلى أو أقل حسب الظروف الموضوعية في حينه. لكن أيضا عدم التوازن تعبير عن المخاطر المحتملة، والوجه الآخر لها من فرص محتملة.