كوريا الجنوبية .. 60 عاما من التحولات الاقتصادية
كانت كوريا الجنوبية حين تأسيسها واحدة من أفقر دول العالم، حيث لم يكن دخل الفرد يتعدى 80 دولارا سنويا، وكانت تعاني دمارا اقتصاديا وفوضى سياسية، وبعد التقسيم ساءت الحالة الاقتصادية أكثر لتوقف النشاط الاقتصادي والتجاري الذي كان مترابطا بين الشطرين. وجاءت الحرب الكورية أعوام 1950 ـ 1953، لتلحق دمارا واسعا شمل كل القطاعات في الجنوب وقدرت الأضرار الناجمة عن الحرب بنحو 69 مليار دولار، أي ما يعادل خمس مرات الناتج الإجمالي لكوريا الجنوبية حينها. ودمرت الحرب ربع البنية التحتية للدولة و40 في المائة من الوحدات السكنية تدميرا كاملا، كما أتت على 46.9 في المائة من شبكة السكك الحديدية و500 كيلومتر من الطرق والقناطر ودمرت 80 في المائة من محطات توليد الكهرباء.
إضافة إلى ذلك ألحقت دمارا واسعا بالبنية الصناعية، حيث دمرت 68 في المائة من مجموع المصانع وتراجع الإنتاج الصناعي بنحو 75 في المائة، كما تراجع إنتاج الأرز بـ65 في المائة وخلفت الحرب أيضا خسائر بشرية كبيرة قدرت بنحو 1.3 مليون كوري جنوبي، من بينهم نحو 400 ألف قتيل. ومع انتهاء الحرب، تراجع دخل الفرد إلى نحو 50 دولارا سنويا، وأصبحت كوريا تعيش على المساعدات الخارجية بشكل كامل، ودخلت البلاد في مرحلة من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وسط أجواء مضطربة سياسيا واقتصاديا، وصل الجنرال بارك تشونج هي إلى سدة الحكم "1961 ـ 1979"، ومنح للتنمية الاقتصادية أولوية كبرى، حيث كانت كوريا تعاني نقصا حادا في نسبة الادخار وتراجعا كبيرا في حجم المساعدات الخارجية، فأنشأ بارك لمواجهة هذه التحديات بنوكا حكومية وأمم البنوك الخاصة للتحكم في القروض وتوجيهها وفق ما تقتضيه الخطط التنموية، وغير الرئيس الجديد استراتيجية التنمية الاقتصادية من استراتيجية الإحلال محل الواردات إلى أخرى تعتمد على اقتصاد موجه نحو الصادرات. وكان هذا التحول ضروريا للحصول على العملة الصعبة لشراء المعدات والتكنولوجيا التي يحتاج إليها قطاعها الصناعي الناشئ، وبالتالي تسريع عملية التصنيع.
كما ركن بارك إلى سياسة التخطيط المركزي، حيث أطلق المخطط الخماسي 1962، وأنشأ مؤسسة جديدة تحمل اسم مجلس التخطيط الاقتصادي للإشراف على التخطيط وتنفيذ المخططات. وكان الهدف المعلن من المخطط الأول هو تحقيق نمو اقتصادي يبلغ 7.1 في المائة خلال الأعوام 1962 ـ 1966 عبر تأمين مصادر الطاقة وتحسين البنية التحتية وتحسين ميزان المدفوعات الخارجية عن طريق زيادة حجم الصادرات. وارتفع الناتج الإجمالي المحلي من 4.1 في المائة 1962 إلى 9.3 في المائة 1963 وحافظ النمو على معدل يزيد على 8 في المائة في الأعوام التالية.
بعدها شهدت كوريا الجنوبية أحد أكبر التحولات الاقتصادية خلال الـ60 عاما الماضية. بدأت باقتصاد قائم على الزراعة في الستينيات، لتتحول إلى الاقتصاد الـ11 في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي في 2016. كيف حدثت هذه المعجزة؟ إنه التحول إلى الصناعة الخفيفة والثقيلة والتقنية المتقدمة.
تعزو عديد من الدراسات عوامل نجاح الاقتصاد في كوريا الجنوبية إلى التحول الهيكلي والإصلاحات السياسية الهادفة إلى فتح البلاد أمام الأسواق الخارجية وتلبية احتياجاتها من الصادرات، وتعد السياسات الموجهة للتصدير في كوريا الجنوبية أحد أهم عوامل نجاحها حتى أصبحت الآن واحدة من أكبر عشرة مصدرين في العالم، وزادت صادراتها كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 25.9 في المائة في 1995 إلى 56.3 في المائة في 2012 من 1954 إلى 1986، زاد قطاع التعدين والتصنيع من حصته من الناتج المحلي الإجمالي 12.0 في المائة إلى 30.2 في المائة مع انخفاض حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 44.6 في المائة إلى 13.5 في المائة.
عاملان أسهما في تسارع التنمية في كوريا الجنوبية وتعزيز وتحسين بيئة الأعمال وسياسات تحفيز بيئة الاستثمار وتشجيع الابتكار:
أولا، تعزز بيئة الأعمال القوية النمو في السوق المحلية وتجذب وتشجع المستثمرين المحليين والأجانب. ووفقا لتقرير البنك الدولي في 2018، احتلت كوريا المرتبة الرابعة من حيث مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، بينما احتلت أمريكا المرتبة السادسة، واليابان المرتبة 34، والصين 78، واحتلت كوريا المرتبة التاسعة في بدء العمل التجاري، بينما سجلت الولايات المتحدة 109 واليابان 49 والصين 93 وبلغت كوريا في الحصول على الخدمات وأهمها الكهرباء المرتبة الثانية والولايات المتحدة 49 واليابان 17 والصين 98 وبلغت كوريا في تنفيذ العقود المرتبة الأولى عالميا والولايات المتحدة المرتبة 16 واليابان 51 والصين المرتبة الخامسة وبلغت كوريا المرتبة الخامسة في حل مشكلة الإفلاس، بينما بلغت الولايات المتحدة المرتبة الثالثة واحتلت اليابان المرتبة الأولى وبلغت الصين المرتبة 56 - 2018 World Bank Doing Business Rankings- ومن بين قائمة المعايير، تهيمن كوريا الجنوبية على سهولة بدء العمل التجاري وإنفاذ العقود. حيث يلعب كل منهما دورا مهما في تشجيع الاستثمار والإنتاج والاتصال، وفي النهاية، النمو الاقتصادي.
ثانيا، كرست اهتماما إضافيا لتطوير التكنولوجيا والابتكار لتعزيز النمو. حيث يعد الابتكار والتكنولوجيا من العوامل الرئيسة التي عززت القدرة التنافسية التصديرية لكوريا الجنوبية ودفعت بالنهوض الاقتصادي الملحوظ للبلاد على مدى العقود الماضية خاصة التقدم العلمي في الحواسيب وتقنية المعلومات وأجهزة الاتصالات والمعدات والآلات الإلكترونية والأجهزة الذكية والبرمجيات. تنفق كوريا الجنوبية الآن الحصة الكبرى من ناتجها المحلي الإجمالي على البنية في الابتكار على أساس كثافة البحث والتطوير متجاوزة في ذلك عديدا من الدول المتقدمة.