لماذا التحكم في أسعار النفط الروسي؟
أصدرت مجموعة السبع، التي تضم الاقتصادات الغربية الكبرى مع اليابان، بيانا في نهاية حزيران (يونيو) الماضي، أبدت فيه توجهها إلى تقليص الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية، ووضعت إضافة إلى ذلك نصب عينها استهداف خفض إيرادات الطاقة الروسية. وفي هذا المضمار، أكدت دول المجموعة دعمها جهود الاتحاد الأوروبي لوضع حد أقصى لسعر واردات النفط الروسي. ويبدو من البيان أن مجموعة السبع تحاول استخدام قوتها الاقتصادية لخفض أسعار النفط الروسي تحت مستويات الأسواق الحرة، وذلك عن طريق استغلال قواها الاحتكارية الشرائية في بناء كارتيل مشترين يضغط على أسعار النفط الروسي، ويجبرها على التراجع إلى مستويات تقل عن باقي أسعار النفط الأخرى. وكان الاتحاد الأوروبي قد قرر، في بداية يونيو الماضي، منع شركاته من تقديم التأمين وإعادة تأمين وتمويل شحنات النفط الروسي عبر البحار بعد نهاية 2022، وانضمت بريطانيا لاحقا إلى هذا المنع.
وضعت مجموعة السبع في حسبانها منع تقديم وبيع أي خدمات لوسائل نقل النفط الروسي عبر العالم ما لم يكن تحت سقف سعري معين يحدد بالتشاور بين شركاء المجموعة. وستسعى دول المجموعة أيضا إلى ضم دول أخرى من خارج المجموعة لهذه القيود، وذلك لتوسيع تأثيرها في أكبر نطاق ممكن. وهذا يعني فرض عقوبات إضافية على صادرات النفط الروسية، والسعي إلى عرقلة شحنه حتى لجهات خارج المجموعة. والهدف من ذلك هو خفض إيرادات روسيا النفطية والتضييق على إنفاقها الحكومي ومجهودها الحربي. ومن غير المستبعد أيضا أنه يستهدف إضافة إلى ذلك، الضغط لاحقا على أسعار النفط والطاقة عموما. وتصدر روسيا نحو 5.6 مليون برميل من النفط يوميا، يرسل 70 في المائة منه عبر البحار، بينما يصدر الباقي عبر الأنابيب إلى أوروبا والصين بشكل شبه متساو.
ستواجه شحنات النفط الروسي بالناقلات ـ بعد نهاية العام الحالي ـ مصاعب في الإبحار والشحن والحصول على الخدمات البحرية والرسو بالموانئ والممرات المائية، التي تطلب تأمينا بجودة جيدة يصعب الحصول عليه من خارج الدول الغربية. ويشترط ملاك الناقلات وكثير من الموانئ والممرات المائية، مثل قناة السويس، تأمينا ذا موثوقية معينة. وتفيد بعض المصادر بأن الشركات الأوروبية والبريطانية توفر نسبا مرتفعة تصل إلى 90 في المائة من عمليات التأمين وإعادة تأمين وتمويل صادرات النفط الروسية في الأحوال الاعتيادية. في المقابل، صرحت روسيا أن شركة التأمين العامة الروسية ستوفر إعادة التأمين اللازم لشحنات النفط، لكن كثيرا من الموانئ والممرات المائية قد لا يقبل مثل هذا التأمين أو إعادة التأمين الممنوح من شركات روسية أو أخرى، كالهندية أو الصينية.
وقف تقديم التأمين والتمويل والخدمات الأخرى للنفط الروسي سيضع عراقيل واضحة أمام تصديره، ولن يعرف مدى تأثير هذا المنع إلا بعد دخوله حيز التنفيذ. طبعا روسيا لن تقف مكتوفة اليدين أمام هذا الإجراء وستحاول الالتفاف حوله بشتى الطرق، التي من ضمنها تقديم مزيد من الضمانات لنقل النفط. كما ستسعى إلى عقد اتفاقات أو تفاهمات رسمية مع الدول المستوردة لمنح ضمانات لناقلي النفط الروسي وتقديم خصومات أسعار لتشجيع استيراده. نظريا، تتوافر فرصة لنجاح جزئي لهذا الإجراء، لكن من المرجح أن ترفض روسيا التقيد بسعر منخفض تحدده الدول الغربية، ما يعني خفض إمدادات النفط الروسي للأسواق. وهذا الخفض سيقود إلى الضغط على الأسعار وتعويض روسيا عن فاقد الإيرادات الناجم عن تراجع حجم صادراتها. ومن المرجح أيضا أن تنشأ أسواق ثانوية للنفط الروسي، ما يعني الالتفاف حول حدود الأسعار وخفض جدواها. كما ستبرز محاولات تلاعب في بيانات الشحن والأسعار ومصادر النفط، وتبييض جزء من صادرات النفط الروسي.
ولدت الحرب الأوكرانية حروبا أخرى اقتصادية بين الدول الغربية وروسيا، شملت كثيرا من القطاعات أبرزها قطاعات الطاقة. وتعاني الدول الأوروبية حاليا شحا شديدا في إمدادات الغاز الطبيعي وارتفاعا غير مسبوق في أسعاره. كما تنشب حرب ثانية في أسواق النفط، حيث حفزت العقوبات الغربية الضغوط على أسعار النفط، الذي قد يوفر بعض البدائل للغاز الروسي. وتمر الدول الأوروبية ـ حاليا وخلال الأمد القريب ـ بأوضاع طاقة حرجة وشح في إمداداتها وتضخم مرتفع في تكاليفها. بذلت الدول الغربية منذ بداية الحرب الأوكرانية جهودا كبيرة لخفض إيرادات الطاقة الروسية، لكن لم تكلل تلك الجهود بالنجاح. وتأتي سياسة الدول الغربية لوضع حدود عليا لأسعار النفط الروسي ضمن محاولات خفض الإيرادات الروسية، والحصول على النفط في الوقت نفسه بأسعار منخفضة، وربما أيضا التأثير في أسعار النفط العالمية وخفضها قدر الإمكان.
ويبدي كثير من المراقبين شكوكا في نجاح هذه الاستراتيجية، خصوصا في ضوء الامتناع المتوقع لدول رئيسة مستوردة للنفط الروسي ـ وأهمها الصين والهند ـ عن المشاركة في دعمها. من جانب آخر، تشير التجارب التاريخية لتحديد الأسعار تحت مستويات السوق الحرة، إلى توليدها تشوهات في الأسواق وتأثيراتها السلبية في إمدادات السلع وتوافرها، ما يوجد أسواقا ثانوية ترتفع فيها الأسعار، وقد تنشأ عنها أسواق سوداء.