حاضنات الأعمال والإسهام في التنمية
أين تذهب مخرجات البحث العلمي؟ وكيف نفعل الاستفادة من قيمة هذه المخرجات ودورها في الإسهام في التنمية؟ وهل لحاضنات الأعمال دور مؤثر في ذلك؟
هذه تساؤلات مترابطة ومهمة، وتأتي أهميتها الخاصة، في الوقت الحاضر، من خلال مشهد المعرفة وتجددها المتسارع في هذا العصر. فالمنافسة على اكتشاف المعرفة وإبداعها، والسعي إلى توظيفها والاستفادة من معطياتها في تحقيق التنمية، عبر توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، قائمة على مستوى دول العالم المختلفة ومؤسساتها العامة والخاصة، وعلى مستوى الشركات العابرة للقارات أيضا. وتحتاج الإجابة عن هذه التساؤلات، إلى طرح أساسيات الموضوع وبيان النتائج والأفكار التي تستند إليها. ويشمل ذلك إلقاء الضوء على مخرجات البحث العلمي ومسألة توظيفها، وعلى التعريف بحاضنات الأعمال وما تقوم به، وعلى النظر إلى آفاق المستقبل الذي نتطلع إليه.
تنقسم البحوث العلمية، طبقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، إلى خمسة أقسام. يتضمن القسم منها ما يعرف بالبحوث الأساسية النقية، أي التي تسعى إلى المعرفة من أجل المعرفة، ولا يشغلها أمر مستقبل تطبيقها والاستفادة منها، بل يشغلها شغف المعرفة والاكتشاف والإبداع، وتقديم مخرجات معرفية غير مسبوقة، قد يستفاد منها في المستقبل. ويشمل القسم الثاني بحوثا أساسية أيضا، لكنها بحوث موجهة وليست نقية، أي أن مخرجاتها تأخذ التطبيق في الحسبان، وتتجه نحوه، لكن ليس على المدى القصير. أما القسم الثالث فيتضمن البحوث التطبيقية التي تقدم مخرجات قابلة للتطبيق دون انتظار، لكن بعد أن تخضع لبحوث القسمين الرابع والخامس المعنيين بإعدادها للسوق المستهدفة، وتوظيفها والاستفادة منها.
يهتم القسم الرابع بتلقي مخرجات من البحوث التطبيقية، وربما الأساسية أيضا، بهدف إجراء التجارب عليها لحالات مختلفة من أجل توثيق قدراتها، وتحديد مجال عملها، لذلك يدعى هذا القسم بقسم بحوث التطوير التجريبي. ويأتي بعد ذلك القسم الخامس ليكمل المهمات التجريبية، ويعمل على تطوير المنتج النهائي الصالح للسوق، أو بالأحرى للمتسوق المستهدف الذي يستفيد منه، ويدفع مقابل ذلك تكاليف هذا المنتج وأرباحه.
وهكذا نجد أن البحوث الثلاثة الأولى، تقدم اكتشافات وإبداعات معرفية غير مسبوقة، وأن البحثين الرابع والخامس يستخدمان هذه الاكتشافات والإبداعات لإعطاء مبتكرات قابلة للوصول إلى السوق وإعطاء قيمة تؤدي إلى توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، والإسهام في التنمية. وعلى هذا الأساس، فإن البحوث الأساسية والتطبيقية، واكتشافاتها وإبداعاتها، تحمل قيمة معنوية حضارية، لكنها لا تعطي قيمة تنموية، إلا عبر تحويلها إلى مبتكرات مفيدة على أرض الواقع عبر بحوث التطوير التجريبي والإنتاجي الذي يخاطب السوق.
يجدر التركيز هنا على حقيقة أن غياب بحوث التطوير التجريبي والإنتاجي يؤدي إلى استبعاد القيمة التنموية للبحوث الأساسية والتطبيقية. وهو ما يطلق عليه عادة "وادي موت الابتكار Death Valley". وعلى ذلك، فإن تكامل الجهود البحثية في إطار الأقسام الخمسة، ضرورة لا بد منها لتحقيق التنمية التي تمثل ميدان تنافس دول العالم، وتمثل أيضا ميدانا للتعاون فيما بينهم.
هناك في البحث العلمي مشكلة مهمة على أرض الواقع. فالجامعات تمنح درجاتها العلمية "ماجستير أو دكتوراه"، للرسائل في البحوث الأساسية والتطبيقية، على أساس أن أصحاب هذه الرسائل يقدمون إسهاما معرفيا في المجال الذي يبحثون فيه. أما بحوث التطوير التجريبي وتطوير المنتجات، فليس لها نصيب في الدرجات العلمية، لأن ما تقدمه لا يحمل قيمة معرفية خاصة، وإنما يستند إلى قيمة معرفية سابقة. وعلى ذلك، فإن البحث العلمي الجامعي يحتاج إلى ريادة أعمال تفعل مخرجات البحوث الأساسية والتطبيقية، عبر الاستثمار في بحوث التطوير التجريبي والإنتاجي الذي يقدم مبتكرات تحمل قيمة مادية على أرض الواقع. وهنا يبرز دور حاضنات الأعمال.
ينظر إلى حاضنات الأعمال على أنها برامج لتطوير مخرجات البحث العلمي الأساسي والتطبيقي وتحويلها تجريبيا وإنتاجيا إلى منتجات مبتكرة جاذبة للسوق وقادرة على توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة. ويتم ذلك عبر استنبات مؤسسات إنتاجية حديثة تحمل لواء الابتكار والتجدد، وتعرف عادة باسم "مؤسسات البدء أو ربما الانطلاق Start-Up"، وتتطلع إلى التجدد والازدهار في المستقبل، والإسهام المستمر في التنمية. وهي بذلك تبني جسرا يربط بين دور البحث العلمي من جهة، ودور ريادة الأعمال من جهة أخرى، كما أنها تقدم مثالا صالحا يفعل ثقافة ريادة الأعمال لدى الباحثين، ولدى المستثمرين، بل لدى المتطلعين إلى التميز أيضا.
تحتاج حاضنات الأعمال إلى استثمار لكي تستطيع القيام بعملها. ولهذه الحاضنات عادة طرفان رئيسان. أولهما هو طرف البحث العلمي الأساسي والتطبيقي الذي يقدم المعارف الجديدة، أما ثانيهما فهو طرف التطوير التجريبي والإنتاجي الذي يعطي المنتجات الابتكارية المتميزة ذات القيمة التنموية. ويفترض أن يمثل هذان الطرفان مصادر الاستثمار المنشود. وتبرز الجامعات ومراكز البحث العلمي في الطرف الأول، كما يظهر المستثمرون الذين يتطلعون إلى ريادة أعمال جديدة في الطرف الثاني، وربما كان هناك طرف ثالث جامع لهذين الطرفين معا، كالجمعيات العلمية.
بعد ما سبق، نعود إلى التساؤلات التي بدأنا بها. فمخرجات البحث العلمي الأساسي والتطبيقي تشمل معطيات تتجه إلى أحد طريقين. أولهما طريق النشر العلمي الذي يعطي قيمة معرفية حضارية، وثانيهما طريق التطوير التجريبي والإنتاجي الذي يقدم مبتكرات ذات قيمة فعلية تسهم في التنمية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاستثمار في البحث العلمي يأخذ كلا الطريقين في الحسبان، لأن في النشر العلمي، مكانة حضارية عالمية، وفي التطوير التجريبي والإنتاجي مبتكرات تحمل مكانة تنموية مهمة. وهناك، في هذا الإطار دلالات تستحق النظر. فعلى سبيل المثال، احتلت اليابان المركز الدولي "السادس" في حجم الإنفاق على البحث العلمي، و جاءت في المركز "54" في النشر العلمي، أي أن طريق التطوير التجريبي والإنتاجي نال نصيبا وافرا من هذا الإنفاق. ولا بد أن نؤكد في الختام الحاجة إلى حاضنات الأعمال التي تفعل الابتكار، وتنقذه من الضياع، عبر مؤسسات واعدة تقدم منتجات متميزة جاذبة للسوق وصانعة للتنمية.