معركة سقف الدين الأمريكي تحمل في طياتها مخاطر كبيرة .. هل تستمر سياسة حافة الهاوية؟

معركة سقف الدين الأمريكي تحمل في طياتها مخاطر كبيرة .. هل تستمر سياسة حافة الهاوية؟
معركة سقف الدين الأمريكي تحمل في طياتها مخاطر كبيرة .. هل تستمر سياسة حافة الهاوية؟

يعد ما يعرف بسياسة حافة الهاوية في الصراع الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن سقف الدين الأمريكي جزءا أصيلا من التراث السياسي للولايات المتحدة، حيث اعتادت واشنطن عليه وتعايشت معه وول ستريت، وسقف الدين الأمريكي باختصار هو أقصى مبلغ من المال يمكن للولايات المتحدة أن تقترضه بشكل تراكمي عن طريق إصدار السندات، وقد تم إنشاء سقف الدين بموجب قانون صادر عام 1917.
معركة سقف الدين الأمريكي تعد شبه سنوية في الولايات المتحدة، لكن المعركة التي تلوح في الأفق في عام 2023 تحمل بين طياتها مخاطر اقتصادية كبيرة، خاصة أنها تأتي في وقت ربما تنزلق فيه الولايات المتحدة إلى الركود.
لذلك فإن تلك المسألة تتجاوز الآن الاقتصاد الأمريكي الأكبر عالميا، وإذا خرجت المعركة عن نطاق السيطرة، فإن انعكاساتها على الاقتصاد العالمي وتحديدا النظام المالي واقعة لا محالة.
وتخلف الولايات المتحدة عن سداد ما عليها من فوائد الديون يدخل النظام الدولي في فوضى كاملة، ليس فقط لضخامة الدين الأمريكي الذي بلغ 31.1 تريليون دولار، وما سيتبع العجز عن سداد الفوائد من اندفاع المستثمرين إلى بيع السندات الأمريكية التي تعد حتى اليوم خالية من المخاطر، لكن الأكثر أهمية فقدان الثقة بالاقتصاد الأول في العالم، وهي ثقة تطلبت نحو 250 عاما من العمل الدؤوب لبنائها، وتعد ركيزة أساسية وضرورية ليظل الاقتصاد الدولي قادرا على العمل بسلاسة.
بالطبع يستبعد أن يتخلف الاقتصاد الأمريكي على الأقل في الوقت الراهن عن سداد ما عليه من ديون أو فوائد، مع هذا فإن مشكلة سقف الدين الأمريكي مقلقة ومؤرقة، خاصة بعد أن أعلنت وزارة المالية أنها ستصل إلى حد الاقتراض البالغ 31.4 تريليون دولار في عام 2023.
وإذا صدقت التوقعات وسيطر الجمهوريون على مجلس النواب في الانتخابات التي ستعقد في 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، فإنهم سيطالبون بخفض الإنفاق العام كثمن للسماح بزيادة السقف القانوني للدين، فنواب الحزب الجمهوري يرون أنه مقابل السماح للإدارة الأمريكية بالاقتراض عن طريق بيع مزيد من السندات الحكومية، فإنها يجب أن تقلص إنفاقها العام، وأن تتخلى عن كثير من المشاريع التي يعتقد الديمقراطيون أنها ضرورية لتفادي الوقوع في فخ الركود، مثل مبادرات الرئيس الأمريكي جو بايدن لمكافحة التغير المناخي والبرامج الاجتماعية الجديدة، وهو ما لا يقنع الجمهوريين.
وهنا، قال لـ"الاقتصادية" البروفيسور آرثر مارتن الاستشاري السابق لبنك إنجلترا، إن "سقف الدين أحد القضايا الدائمة في السياسة الأمريكية، وأحيانا تثور القضية لتصبح مصدر قلق كبير للجميع، وتم رفع سقف الدين أو تعليته 28 مرة منذ عام 1993، وكانت هناك معارك كبيرة بهذا الشأن في أعوام 1995 و2011 و2013".
وأضاف "في تلك الأعوام تم تمديد إغلاق الحكومة وسط قلق من أن تتخلف الولايات المتحدة عن سداد التزامات ديونها، وإذا سيطر الجمهوريون على الكونجرس في انتخابات التجديد النصفي لنوفمبر، فإننا قد نشهد معركة مختلفة تلك المرة تتعلق بسقف الديون".
لكن إذا كانت الولايات المتحدة قد شهدت مثل تلك المعركة من قبل، فلماذا تبدو أكثر خطورة الآن؟
من جانبها، ترى الدكتورة جوليا ماركوس، أن ضخامة سوق السندات الأمريكية هي ما تجعل قضية سقف الدين الأمريكي مثيرة للقلق.
وقالت لـ"الاقتصادية" ماركوس إن "انهيار سوق السندات في المملكة المتحدة الذي يبلغ تريليون دولار أدى إلى وضع البلاد على حافة أزمة مالية، ما اضطر بنك إنجلترا إلى التدخل لإنقاذ الموقف، وعلينا إذن أن نتخيل كيف سيكون الوضع في الولايات المتحدة، حيث تبلغ سوق سندات الخزانة الأمريكية 24 تريليون دولار، وهي أهم سوق في العالم، ويؤثر تشغيلها السلس بشكل مباشر في كل من قدرة الولايات المتحدة على إدارة حكومتها وصحة النظام المالي الأمريكي والعالمي، وكل تلك المنظومة مبنية على ثقة واقتناع الدائنين بأن ديون الولايات المتحدة رهان آمن".
وأضافت "هذا ما جعل جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية تصرح بأنه ينبغي ألا تكون الولايات المتحدة رهينة لأعضاء الكونجرس الذين يعتقدون أنه من المقبول التنازل عن التصنيف الائتماني للبلاد والتهديد بالتخلف عن سداد سندات الخزانة الأمريكية التي تشكل حجر الأساس للأسواق المالية العالمية".
وقد يشتعل الجدل حول سقف الديون الأمريكية مرة أخرى أوائل العام المقبل، بعد أن يؤدي الكونجرس الجديد اليمين الدستورية، ففي الربع الأول من عام 2023 يرجح أن يكون خط الائتمان الوطني قد استنفد، وفي تلك الحالة يمكن أن تتخذ وزارة الخزانة الأمريكية خطوات غير عادية لتفادي التخلف عن السداد حتى منتصف العام المقبل أو حتى لفترة أطول اعتمادا على الإيرادات التي ستحصلها من مختلف جوانب الاقتصاد الوطني.
لكن بغض النظر عن الصراع الذي يلوح في الأفق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول حد سقف الدين الأمريكي، فإن قضية الديون الأمريكية تطرح تساؤلا رئيسا هل يمكن أن تستمر الولايات المتحدة في الاستدانة إلى الأبد؟
في الحقيقية فإن النظام الأمريكي -على الأقل نظريا- يعد جيدا فيما يتعلق بعدم قدرة الحكومة على الاستدانة دون موافقة المشرعين الأمريكيين، إذ يضمن ذلك "فرملة" الرغبات والطموحات المفرطة للحكومة في الاقتراض، ويساعد على التحكم والحد من ارتفاع ديون الدولة، مع ذلك فإنه لم يكن أداة فعالة في العقود الأخيرة، إذ تضخمت الديون الأمريكية من 3.2 تريليون دولار في عام 1990 إلى 31.1 تريليون دولار اليوم.
بالطبع تستطيع واشنطن مواصلة الاقتراض، ولكن إلى حد ما، مع ارتفاع معدلات الفائدة التي يجب أن تدفعها على ما تقوم باقتراضه ومع منافسة مؤسسات أخرى الحكومة الأمريكية في الاقتراض من الجهات التي تمتلك الأموال، فإن الوضع يزداد صعوبة.
من ناحيته، ذكر لـ"الاقتصادية" ويل أريك الخبير المصرفي، أن "تنامي تكلفة تمويل جبل الديون الأمريكية يؤرق الجميع، فخلال السنة المالية 2022 دفعت الحكومة الأمريكية 475 مليار دولار فوائد فقط لديونها ارتفاعا من 352 مليار دولار في عام 2021، وبحلول عام 2025 أو 2026 قد تصل الولايات المتحدة إلى مرحلة قاتمة، حيث تتجاوز مدفوعات الفائدة الميزانية العسكرية التي بلغت هذا العام 767 مليار دولار".
ويستدرك قائلا "لكن على أي حال لا يوجد سبب وجيه في الوقت الحالي يجعلنا نشك في قدرة واشنطن على سداد ما عليها من مدفوعات الفائدة، لكن التكلفة المرتفعة لتمويل الديون الأمريكية تترك مجالا أقل للكونجرس للإنفاق على الأولويات الأخرى كالتعليم والصحة والبنية التحتية ومكافحة ظاهرة التغير المناخي".
من المؤكد الآن أن الأعوام التي كانت واشنطن قادرة على الاستدانة "مجانا تقريبا" قد ولت، فلأعوام طويلة أبقى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة منخفضة للغاية لتحفيز النمو وتشجيع رفع الأسعار أي زيادة معدل التضخم، بهدف إعطاء دفعة للمستثمرين للقيام بمزيد من الاستثمارات وتشغيل مزيد من العمال والموظفين، وكان هذا الوضع يجعل من السهل والميسور بالنسبة إلى الكونجرس ولإدارتي ترمب وبايدن الاقتراض بقوة.
المشهد الآن تغير ويتغير، فمنذ مارس 2021 تقريبا، بدأ التضخم يرتفع في الولايات المتحدة وعديد من الاقتصادات الدولية الكبرى، واضطر الفيدرالي الأمريكي إلى التحول من وضع التحفيز الطارئ إلى وضع مكافحة التضخم، وهو وضع أقر كبار المسؤولين في الفيدرالي الأمريكي بأنه حدث بعد فوات الأوان ومتأخرا.
واليوم ها هو الفيدرالي الأمريكي يرفع الفائدة للمرة الرابعة هذا العام، ويزداد القلق والتوتر إذا ما دخل الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود بسبب حرب الفيدرالي على التضخم، فالركود سيؤدي إلى تفاقم المشكلات المالية الأمريكية عن طريق خفض حجم الإيرادات الضريبية التي تحصل عليها الحكومة من الشركات والأفراد، وفي الوقت نفسه زيادة الإنفاق الحكومي على البطالة وبرامج شبكات الأمان الاجتماعي.
من المؤكد أن الاضطراب في سوق السندات البريطانية على محدوديته مقارنة بالسوق الأمريكية بمنزلة جرس إنذار مبكر، يكشف أنه مع ارتفاع أسعار الفائدة تنفجر فقاعة السندات السيادية، ويزداد خطر سقف الدين المتزايد.
بالطبع لا تزال الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم وتظل الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي، والدولار الأمريكي سيد العملات وعملة الاحتياطي الدولي، والسندات الأمريكية ينظر إليها على أنها الأصول الأكثر أمنا على سطح هذا الكوكب، لأنها تساعد في تحديد تكلفة رأس المال على كل شيء من الأسهم والرهون العقارية إلى ديون الأسواق الناشئة.
باختصار لم يكن عجز الميزانية والديون وسقف الدين الأمريكي قضية مقلقة للأمريكيين أو الاقتصاد الدولي، لكن يبدو أن الوضع يتغير والقلق يزداد بسبب الارتفاع المتواصل في أسعار الفائدة.

الأكثر قراءة