لغتنا الجميلة ورصيدها المعرفي .. هل نحن مقصرون؟
يطل اليوم العالمي للغة العربية، في الـ18 من هذا الشهر. ولعل من المناسب أن تكون لنا في هذا اليوم وقفة مع لغتنا الجميلة. وإذا كان لنا من بداية حول هذا الموضوع، فلعلنا نعود إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو UNESCO التي تقول، إن عدد لغات العالم يصل إلى نحو سبعة آلاف لغة، وتقول أيضا، إن هناك عشر لغات رئيسة فقط، بين كل هذه اللغات، هي اللغات الأم لأكثر من 40 في المائة من البشر. تأتي اللغة العربية في المرتبة الخامسة بين اللغات العشر من حيث عدد أبنائها الذي يبلغ أكثر من 350 مليون نسمة، وتأتي أيضا في المرتبة الرابعة، من حيث الانتشار الجغرافي، وفي المرتبة الرابعة، في مجال العلاقات الدولية.
لغتنا الجميلة لغة واسعة المفردات، تستطيع التعبير بعمق ووضوح، بل ببلاغة في الصياغة أيضا، عن شتى علوم الحياة، ومختلف مشاعر الإنسان وخيالاته، وأفكاره. ولا شك أن كل من يكتب باللغة العربية، ويكتب أيضا بلغات أخرى، أو يترجم منها وإليها، يستطيع أن يتلمس ذلك على أرض الواقع. ولا غرابة في هذا الأمر بالطبع، فاللغة العربية هي اللغة التي اختارها الله تعالى للقرآن الكريم، وهناك شهادات كثيرة من الخبراء من غير المسلمين، بل حتى المعادين للإسلام، حول البلاغة المؤثرة للقرآن الكريم. ومن هؤلاء الكاتب الفرنسي الشهير ماكسيم روبنسون Maxim Robinson الذي رأيته على التلفزيون الفرنسي، في الثمانينيات من القرن الماضي، يشرح بإعجاب بلاغة الوصف في إحدى آيات القرآن الكريم.
ولعلنا، بعد ما سبق، نتوقف هنا لنتساءل: هل تلقى اللغة العربية ما تستحق من اهتمام؟
ولنا أن نتساءل هنا: ما المقصود بهذا الاهتمام؟ يرتبط الاهتمام، في هذا التساؤل، بمدى استخدام اللغة، ويمكن النظر إلى هذا الاستخدام على أنه مشهد متكامل يجمع أبعادا ثلاثة. يتمثل البعد الأول في الإنتاج المعرفي، والكتابة والتعبير، ونقل المعرفة وتوليدها، وإثراء الرصيد المعرفي الذي تتمتع به اللغة العربية، وتقدمه للأجيال المتجددة. ويهتم البعد الثاني بنشر المعرفة التي يقدمها البعد الأول، وإيصالها إلى هذه الأجيال، من أجل تمكينهم من اكتساب الثقافة والتحصيل المعرفي عبر اللغة العربية. ويركز البعد الثالث، بعد ذلك، على تمكين البعدين السابقين، أي دعم الإنتاج المعرفي للبعد الأول، إضافة إلى تفعيل البعد الثاني وتلقي العطاء المعرفي والاستفادة منه على نطاق واسع.
لا شك أن أبعاد الاهتمام باللغة العربية سابقة الذكر شهدت على مدى العصور دعما وتفعيلا بدرجات مختلفة، قادت إلى الرصيد المعرفي الذي تتمتع به لغتنا الجميلة اليوم. ولعلنا نذكر في هذا المقام مثالا من التاريخ المتداول حول دعم العطاء المعرفي العربي، ترجمة وإبداعا. إنه مثال عهد الخليفة المأمون، الذي أنشأ دار الحكمة، ومكن إبداعات الخوارزمي في الرياضيات من الظهور، حيث انتشرت بعد ذلك على المستوى الدولي، وعمت فوائدها العالم بأسره.
ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن الإنتاج المعرفي الذي شهده العالم في القرن الـ20، الذي يشهده حاليا قد تجاوز بمراحل كل ما كان مطروحا قبل ذلك. وقد كان نصيب اللغة العربية في تسجيل هذا الإنتاج، سواء نقلا أو إبداعا، محدودا مقارنة بـبعض اللغات الأخرى. الجدير بالذكر، في هذه الفترة، أن المؤهلين العرب في المجالات العلمية المختلفة أسهموا في الرصيد المعرفي للغات الأخرى، ولم يسهموا بالرصيد المعرفي للغة العربية.
ويعود ذلك لأسباب كثيرة، ربما بينها بروز اللغة الإنجليزية كلغة للتداول العلمي بين المتخصصين، فضلا أيضا عن ضعف برامج تعريب العلوم. ولا شك أن القراءة والتحصيل باللغة الأم يؤديان إلى كفاءة أعلى في الاستيعاب وعمق الفهم، وقد اهتمت أمم أخرى بذلك، ليتوسع بذلك رصيد لغاتها في المجالات العلمية المختلفة.
ولإبراز ما سبق، بشأن الإنتاج المعرفي للغات المختلفة، نعود إلى دراسة بعنوان "اللغات المهمة في الإنتاج المعرفي العالمي"، أجراها الباحث سيرجي لوباتشيف Sergey Lobachev، ونشرتها المكتبة العامة في مدينة لندن - أونتاريو. تأخذ الدراسة 14 لغة في الحسبان، وتقارن بين النسبة العالمية للمتعلمين من أبناء كل من هذه اللغات من جهة، والنسبة العالمية للإنتاج المعرفي في هذه اللغات من جهة أخرى.
وقد أخذت نسبة المتعلمين هنا، من منطلق أن هؤلاء هم القادرون على الإنتاج المعرفي، والقادرون أيضا على الاستفادة من هذا الإنتاج. وتعتمد هذه الدراسة على بيانات صادرة في أوقات مختلفة، ما قد يقلل من الموثوقية الكاملة لنتائجها، لكنها في الوقت ذاته تقدم تقديراتها بأسلوب علمي، يعطيها حدا معقولا من هذه الموثوقية، يجعلها تستحق الاطلاع.
تضع الدراسة اللغة العربية في المرتبة الـ13 بين اللغات في الإنتاج المعرفي. واللافت هنا أن النسبة العالمية المعطاة لأبناء اللغة العربية من المتعلمين هي 4.24 في المائة، وأن النسبة العالمية للإنتاج المعرفي باللغة العربية هي 0.43 في المائة، أي أدنى بعشر مرات من نسبة المتعلمين.
تجدر الإشارة، على سبيل المثال، إلى أن النسبة العالمية للمتعلمين في اليابان بلغت 2.33 في المائة، بينما بلغت النسبة العالمية لإنتاجهم المعرفي بلغتهم الأم 3.34 في المائة، أي أن هذه النسبة تزيد 1.4 مرة على نسبة المتعلمين. وبالطبع تحتل اللغة الإنجليزية، في هذا المجال، مكانة خاصة يبلغ الإنتاج المعرفي فيها نحو 4.2 مرة عدد المتعلمين من أبنائها. ويعود الإنتاج المعرفي في هذه اللغة إلى كثير من أبناء اللغات الأخرى، ومنها العربية بالطبع.
لا شك أننا نحن أبناء العربية مقصرون، مقصرون في الإنتاج المعرفي، ومقصرون في نشره، وفي تمكينه وتوفيره للمستفيدين. وينطبق ذلك ليس فقط على الكتب المنهجية التعليمية، بل على الكتب الثقافية بأشكالها الأدبية والعلمية التي تستجيب لمتطلبات العصر. ولأننا في عصر العالم السيبراني، فليس مطلوبا تقديم الكتب المفيدة ورقيا، بل يمكن توفيرها إلكترونيا، نصوصا، وأصواتا، وصورا. فهل من مشروع لموقع عربي شامل يحقق ذلك، ولو جزئيا في مجال واحد أو أكثر من المجالات.