الشهر المجنون
انتهت البارحة منافسات كأس العالم وانتهى معها شهر كامل من الجنون والغفلة والمشاعر الوطنية الجـياشة.
"الجنون" لأنها الحالة الوحيدة التي تستولي فيها كرة مصنوعة من جلد البقـر، على عقول البشر كافة. و"الغـفلة" لأنه الشهر الوحيد الذي تنسى فيه الشعوب مصائبها، وتغض فيه الطرف عن مصائب غيرها.
و"المشاعر الوطنية الجميلة" لأن العرب لم يتوحدوا خلف السعودية إلا بعـد مباراتها مع الأرجنتين.. في حين تحولوا كلهم إلى "مغاربة" حـين التقت المغرب فرنسا ثم كرواتيا.
وكرة القدم تستحق في نظري لقب "أفيون الشعوب" لكونها فترة غيبوبة لذيذة لطالما استغلها السياسيون لمصلحتهم.
وأول "استغلال" أعرفه كان من الدكتاتور الإيطالي موسيليني الذي قال، "لم أتصور أن ولاء الإيطاليين لهذه اللعبة يفوق ولاءهم لإيطاليا وأحزابها الوطنية، سنفعل ما بوسعنا لاستضافة البطولة المقبلة"!
وحين استولى العسكر على الحكم في الأرجنتين فعـلوا المستحيل لاستضافة بطولة 1978، ثم دفـعـوا الرشا لـوضع المنتخب الأرجنتيني في مجموعة ضعيفة تبعده عن البرازيل وتؤهله إلى الأدوار النهائية. وحين بـدا أن البرازيل ستتأهل إلى المباراة الختامية بدلا منهم، ضغطوا على حكومة الـبيرو لتسمح للأرجنتين بالفوز عليها (6/ صفر)، وتـقصي بذلك البرازيل بفارق الأهداف، ثم تفوز بالكأس على حساب هولندا!
وكانت البرازيل قد وصلت مع الأورجواي للمباراة النهائية في 1950.. وفي الليلة التي تسبق النهائي حضر من الأرجواي نائب الرئيس ليحذر لاعـبيه من الفـوز بالكأس ويخـبرهم صراحة أن انتصارهم على البرازيل "الدولة المستضيفة" سيضر بمصالح الأرجواي الاقتصادية، غـير أن منتخب الأرجواي تمرد على حكومته وفـاز على البرازيل في عـقر دارها "وكانت النتيجة تراجع البرازيل عن شطب ديون الأورجواي لديها"!
أنـا شخصيا ما زلت أذكر كيف استغلت إسرائيل انشغال العالم ببطولـة 1982 لـغزو لبنان وتدمير بيروت ومساعدة حزب الكتائب على ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا. وجميعنا يـذكر أيضا كيف استغلت إسرائيل بطولة 2014 لقصف قطاع غـزة وتدمير بنيته التحتية فيه. وبنهاية هذا الأسبوع سنكتشف كيف انشغلنا بـمونديال 2022 عـن الحـرب الروسية الأوكرانية، والأحداث في شمال سورية، ومعاناة المدنيين من قـسوة الشتاء وشـح الوقـود.
ورغـم كل هـذا، لا يزال "كأس العالم" في نظري يتضمن معاني إيجابية كثيرة تفوق ما يقترفه السياسيون تحت عباءته.. ما زلت أتمنى لو يتم تنظيمه "كل عامين"، لكونه الفرصة الوحيدة التي تـتنافس فيها شعوب العالم بعـيدا عن مآسي الحرب وأكاذيب السياسية وتقلبات الاقتصاد.
لـم تعـد مجرد كرة مصنوعة من جلد البقر، بـل واحدة من أسلحة القوى الناعمة "ويـفترض بـنا الاستعداد، من الآن للمعركة المقبلة".