الاقتصاد الرقمي .. تحولات الإقدام في مواجهة الإحجام

يقاس التحول الرقمي بمدى انتشار تقنياته واستخدامها والاستفادة منها.

وترى "نظرية الانتشار Diffusion Theory"، والمقصود هنا هو انتشار التقنية الحديثة أيا كانت، أن لهذا الانتشار ثلاث مراحل زمنية.

تبدأ المرحلة الأولى بإقبال، من يطلق عليهم "الرواد"، على استخدام هذه التقنية، وهم الأكثر وعيا بأهميتها وفوائدها، لكنهم قليلون نسبيا.

ثم تأتي المرحلة الثانية لتشمل تدريجيا الأكثرية التي راحت تدرك هذه الأهمية وما تقدمه هذه التقنية من فوائد، وتبرز المرحلة الثالثة بعد ذلك لتتضمن من وصلهم هذا الإدراك متأخرا، أو من اضطروا إلى ذلك بسبب الانتشار الواسع الذي يعم الجميع.
لا يستند التحول الرقمي إلى تقنية واحدة، بل إن له تقنيات متعددة، ويضاف إلى ذلك أن هذه التقنيات تتمتع بتجدد مستمر، وهي قابلة للتكامل في تقديم خدمات محدثة ومفيدة نتيجة لاعتمادها على مبادئ إلكترونية رقمية مشتركة.

وقد استطاعت التقنيات الرقمية التأثير في حياة الإنسان، ربما أكثر من أي تقنيات أخرى، بسبب خدماتها المعلوماتية التي تتمتع بإمكانات متطورة وذكاء متنام في مختلف المجالات من جهة، وبسبب توفير هذه الخدمات على نطاق واسع يشمل العالم بأسره عبر الإنترنت من جهة أخرى.

وتضمن أثر هذه التقنيات بروز الاقتصاد الرقمي وانتشار فوائده، فضلا أيضا عن الأثر الاجتماعي للخدمات المعلوماتية واسعة النطاق.
إذا نظرنا من حولنا إلى ما يجري في مجال التحول الرقمي، لرأينا أن هناك جهودا كبيرة في هذا المجال، ليس فقط على مستوى العالم، بل في المملكة على وجه التحديد.

فقد أعطى تطور خدمات الحكومة الإلكترونية تحولا رقميا مهما في هذا المجال، وكذلك حال التجارة الإلكترونية أيضا، فضلا أيضا عن تطور حماية الأمن السيبراني، أي حماية مختلف الخدمات الرقمية المتاحة عبر الإنترنت.

ويضاف إلى ذلك، ما قدمته وتقدمه خدمات العمل عن بعد، خصوصا في فترة جائحة كورونا، حيث استطاعت هذه الخدمات الحد من الآثار السلبية لهذه الجائحة في المجتمع.
هناك، في إطار بعض الخدمات الرقمية، سابقة الذكر مؤشرات دولية تقيم مستويات الدول المختلفة في تقديم هذه الخدمات.

وتدل مؤشرات التقييم هذه على مدى قدرة الدول على الاستفادة من التقنية الرقمية في تعزيز فاعلية نشاطاتها وكفاءتها، إضافة إلى مرونتها ورشاقتها في المنافسة والاستجابة للمتغيرات.
وقد حصلت المملكة على "المرتبة الـ 31" بين دول العالم في "دليل مؤشرات خدمات الحكومة الإلكترونية EGDI" لـ2022.

وفي إطار هذا الدليل حصلت على مكانة متقدمة في "دليل مؤشرات البيانات الحكومية المفتوحة OGDI". وحصلت المملكة أيضا على "المرتبة الثانية" بين دول العالم في "الدليل العالمي للأمن السيبراني GCI" لـ2020، حيث لم يصدر، حتى الآن، أي تحديث لهذا الدليل بعد.

وخلال فترة جائحة كورونا، أبرز تقرير "لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD" كفاءة المملكة في استخدام التعليم عن بعد في مواجهة الجائحة.
ولعل من المهم هنا ذكر أن هناك جانبين رئيسين للتحول الرقمي لم يأخذا دورهما الفاعل بعد، من حيث التقييم الدولي الموثق، والمؤشرات والأدلة التي تضعها مؤسسات دولية معتمدة، وتصنف دول العالم على أساسها.

الجانب الأول هو جانب العمل عن بعد في مختلف المجالات، وما ينتج عن ذلك من تحقيق فوائد اقتصادية تعزز الاقتصاد الرقمي.

أما الجانب الثاني فهو جانب الإسهام في تصنيع وإنتاج الوسائل والتقنيات الرقمية، وفي تطويرها وتفعيل تطبيقاتها وخدماتها، والإسهام أيضا في هذا الاقتصاد.

وسنركز في التالي على جانب العمل عن بعد، على أن نهتم في جانب الإنتاج التقني في مقال مقبل - بمشيئة الله.
إذا نظرنا إلى جانب العمل عن بعد، نجد أن جزءا منه قائم في الخدمات الإلكترونية الحكومية، وكذلك في خدمات التجارة الإلكترونية، كما نجد أيضا أن جزءا آخر منه لم يلق بعد الاهتمام الذي يستحق، على الرغم من الاعتماد الجزئي عليه خلال فترة جائحة كورونا.

فكثير من الأعمال المعلوماتية، والنشاطات المرتبطة بها، والقابلة للعمل عن بعد بكفاءة وفاعلية، في الوزارات والإدارات المختلفة، وفي شتى مؤسسات القطاع الخاص، لا تزال تؤدى حضوريا، ما يؤدي إلى هدر في بعض معطيات التقنية الرقمية وعدم تفعيل الاقتصاد الرقمي والاستفادة منه بالقدر المنشود.

ولا شك أن هناك معوقات تؤدي إلى ذلك، يستحسن دراساتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها.
قد يكون لثقافة العمل الحضوري المعتادة عبر الزمن أثر مهم في إعاقة العمل عن بعد في النشاطات المعلوماتية القابلة لذلك.

لكن هناك أيضا مشكلة إدارية تعزز الثقافة الحضورية هذه. وتتمثل هذه المشكلة، بشكل رئيس، في مسألة تقييم الأداء. فآليات ضبط حضور العاملين، وربما استخدام التقنية لتحقيق ذلك، كانت دائما وسيلة أساسية لضبط أدائهم.

وتختلف ثقافة العمل عن بعد عن ثقافة العمل الحضوري في أنها تركز مباشرة على الإنتاجية وعلى تقديمها في الوقت المناسب.

أي أنها تستبدل آليات ضبط الحضور، التي يفترض أنها تستهدف الإنتاجية، بآليات ضبط الإنتاجية مباشرة، كما وكيفا وزمنا أيضا، بما يؤدي إلى تحقيق متطلبات العمل المنشود.

وتستطيع التقنية الرقمية بالطبع تنفيذ آليات الضبط هذه، إلى جانب تنفيذ العمل عن بعد، والإسهام في التحول نحو الاقتصاد الرقمي.
تشهد التقنية الرقمية، مزيدا من تعدد المنتجات، وتوسع التطبيقات، وتطور الإمكانات والقدرات.

ويتيح ذلك مزيدا من الوسائل التي تعزز تمكين العمل عن بعد في المجالات المختلفة.

فالإنترنت بات يقدم سرعات أكبر في نقل البيانات، ويستوعب حجوما أكبر منها، والعالم السيبراني بات يعطي تطبيقات أوسع وأكثر استجابة لمتطلبات الأعمال المختلفة.

ويبرز حاليا "عالم التحول Metaverse" الذي تحدثنا عنه في مقال سابق ليقدم تطبيقات "الحقيقة الافتراضية VR" وغيرها.
ويأتي الذكاء الاصطناعي بإضافات ذكية لكل من هذه التطبيقات، فضلا عن تقديم تطبيقات أخرى غير مسبوقة.

وفي كل ذلك فوائد تقنية جمة تفعل العمل عن بعد، وتعزز معطيات الاقتصاد الرقمي التي نحتاج إلى تفعيلها وجني الفوائد المنشودة منها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي