تقييم التنافسية .. في منهجية مرجع دولي

تحدثنا عن التنافسية في مقال سابق، وذكرنا أنها ترتبط بالسعي نحو التفوق والتميز في معطيات تحمل قيمة، وأنها تتعلق بثلاثة مستويات متكاملة هي مستوى الفرد، ومستوى المؤسسة، ومستوى الدولة. وطرح المقال اهتمام المملكة بالتنافسية، وتوجهها نحو دعمها على كل من هذه المستويات، وأبرز لذلك ثلاثة شواهد رئيسة. فبرنامج تنمية القدرات البشرية يسعى، على مستوى الأفراد، إلى تأهيل مواطن قادر على المنافسة عالميا. والهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، "منشآت"، تركز على تنافسية المؤسسات الناشئة، وتوفير البيئة اللازمة لنجاحها، وتفعيل قدراتها. والمركز الوطني للتنافسية، يهتم على مستوى الدولة، بتحسين البيئة التنافسية للمملكة وتطوير إنتاجيتها نحو التميز في العطاء، والاستدامة في هذا التميز، والشمولية في التعاون والرؤية التنموية.
يطرح هذا المقال مسألة تقييم التنافسية، على مستوى الدول، وهو المستوى العام الذي يرتبط، بل يعتمد في تمكينه على كل من مستوى المؤسسات ومستوى الأفراد. ويهتم المقال في هذا المجال بمنهجية مرجع دولي يقوم بهذا التقييم سنويا لعدد من الدول يبلغ "63 دولة"، بينهم المملكة، ويطرح ناتج هذا التقييم في إصدار سنوي خاص، يتضمن إلى جانب التقييم بعض التوصيات المستقبلية لكل من هذه الدول. وهذا المرجع هو "المعهد الدولي من أجل التنمية الإدارية IMD"، وهو معهد يركز على شؤون الأعمال، وعلى التعليم والتدريب وإجراء البحوث فيها، ويمنح درجات علمية في هذا المجال. وقد تم إنشاء المعهد من قبل رجال أعمال في سويسرا قبل أكثر من سبعة عقود، وله حاليا مركز في مدينة "لوزان" السويسرية، وآخر في سنغافورة، كما أن له شراكات مع معاهد أخرى مماثلة حول العالم.
تنطلق منهجية تقييم التنافسية التي يطرحها المرجع المذكور من اعتبار أن الدولة هي صاحبة المسؤولية الأولى عن التنافسية، عبر سعيها إلى تأمين البيئة المناسبة للمؤسسات لكي تنمو ونزدهر وتكون قادرة على المنافسة، بل على استدامة هذه القدرة أيضا. والمؤسسات بالطبع هي شخصيات اعتبارية تحتاج إلى أفراد يتمتعون بالتأهيل المناسب والقدرات المتطورة التي تمكنهم من حسن إدارة هذه المؤسسات وتوجيهها، فضلا أيضا عن تطوير منتجاتها، وتفعيل أدائها. ومن هذا المنطلق، تحدد المنهجية أربعة عوامل رئيسة للتقييم، وينقسم كل من هذه العوامل إلى خمسة عوامل فرعية، أي أن هناك "20 عاملا" للتقييم. وتتساوى أهمية هذه العوامل من حيث تأثيرها في التقييم، حيث يبلغ الوزن المئوي لكل من هذه العوامل "5 في المائة".
يرتبط كل من عوامل التقييم الـ 20 بعدد من الخصائص، ويبلغ مجمل عدد هذه الخصائص "334 خاصية"، منها "255 خاصية" تدخل في نتائج التقييم، إضافة إلى "79 خاصية" داعمة لها. وتنقسم الخصائص الداخلة في نتائج التقييم إلى قسمين رئيسين. قسم يتضمن "163 خاصية" ذات مؤشرات تقاس "ببيانات كمية مباشرة Hard Data"؛ وقسم يشمل "92 خاصية" ترتبط بمؤشرات تقاس "ببيانات ناتجة عن دراسات مسحية Survey Data". وتعطي منهجية التقييم وزنا مضاعفا لخصائص المؤشرات الكمية، مقارنة بـمؤشرات الدراسات المسحية، على أساس أنها أكثر موثوقية، ولا تخضع لعينات تختلف في حجمها، وتعتمد على مدى القدرة اللازمة لجمعها.
تشمل العوامل الرئيسة للتقييم التالي، الأداء الاقتصادي، وكفاءة الأداء الحكومي، وكفاءة أداء الأعمال، إضافة إلى البنية الأساسية. وترتبط العوامل الفرعية لعامل الأداء الاقتصادي بكل من الاقتصاد المحلي، والتجارة الخارجية، والاستثمار الخارجي، والعمالة، إضافة إلى مستويات الأسعار. أما العوامل الفرعية لعامل كفاءة الأداء الحكومي فتتضمن، التمويل المالي، والسياسات الضريبية، والتكوين المؤسسي، والتكوين المجتمعي، وتشريعات العمل. ولعلنا نذكر هنا، في مجالات هذا العامل، توجهات رؤية المملكة 2030 نحو تأمين حكومة فاعلة، تعززها مواطنة مسؤولة، في إطار محورها الخاص بالوطن الطموح.
وننتقل إلى عامل كفاءة أداء الأعمال لنجد أن عوامله الفرعية تشمل الإنتاجية، وسوق العمل، والإمكانات المالية، والممارسات الإدارية، إضافة إلى القيم والسلوك. ونأتي أخيرا إلى عامل البنية الأساسية الذي يتضمن عوامل فرعية تشمل البنية الأولية المرتبطة بالطاقة والنقل وشؤون الإسكان والمدن، ثم البنية التقنية التي تشمل تقنيات المعلومات والاتصالات وما يرتبط بها، إضافة إلى التقنية المتقدمة وتصديرها، وكذلك البنية العلمية المرتبطة بالبحث العلمي ودعمه ومعطياته، وبنية الشؤون الصحية والبيئة المحيطة، إضافة إلى بنية التعليم والتأهيل وتميز الأفراد وقدرتهم على المنافسة. ولرؤية المملكة وبرامجها في هذا المجال توجهات مشهودة.
شملت المراكز التنافسية الخمسة الأولى في تصنيف الدول، على أساس تقييم المنهجية سابقة الذكر، لـ 2022، الدانمارك، وسويسرا، وسنغافورة، والسويد، وهونج كونج، على الترتيب. ولم تكن أي من الدول الكبرى بين الأوائل، فقد احتلت الولايات المتحدة "المرتبة العاشرة"، وجاءت ألمانيا في "المرتبة الـ 15"، والصين في "المرتبة الـ 17". واحتلت السعودية "المرتبة الـ 24"، بعد أن كانت في "المرتبة الـ 32"، في 2021. وبرز أفضل ترتيب لها في العامل الفرعي الخاص بالقيم والسلوك، والمرتبط بعامل كفاءة الأعمال، حيث حصلت على "المرتبة السادسة" بين الدول. وأشادت توصيات التقييم الخاصة بالمملكة برؤية المملكة 2030 وتوجهاتها المستقبلية.
وشملت توصيات التقييم التفصيلية، الخاصة بالمملكة، أربع توصيات، نوردها في التالي. أكدت التوصية الأولى الحرص على متابعة التوجه نحو تعددية المجالات الاقتصادية والعمل على جذب الاستثمارات الخارجية. أما التوصية الثانية فرأت الحاجة إلى استمرار الاهتمام بشؤون الطاقة المتجددة والحد من التلوث الكربوني. واهتمت التوصية الثالثة بضرورة إغلاق الفجوة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل. وركزت التوصية الرابعة على مسألة الاهتمام بالاقتصاد الرقمي عبر تفعيل التحول الرقمي، خصوصا في مجالات التعليم والصحة والنشاطات التجارية.
تقضي التنافسية بعدم التوقف عن السعي نحو مزيد من التميز والتفوق. ويحتاج ذلك إلى جهد يبذله الجميع، وإرادة يتحلون بها. فللتنافسية مشهد واسع، متعدد الجوانب، كما بينت المنهجية المطروحة في هذا المقال. ثم إنها تشمل منافسين كثيرين، فالعصر عصر المنافسة، ولا شك أن التقدم والتميز والتفوق يكون دائما من نصيب القادرين، ولعلنا، بمشيئة الله، أن نكون كذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي